هل انتهى عصر الرأسمالية في ظل السلطة الرقمية؟

ومضات معرفية من كتاب ” الإقطاع التكنولوجي: الذي قتل الرأسمالية؟ “

 

ترجمة وبتصرف: عبدالله سلمان العوامي

تاريخ نشر الترجمة: ١٤ ابريل ٢٠٢٥م

تاريخ اصدار الكتاب بغلاف ورقي: ١٣ فبراير ٢٠٢٤م

مؤلف الكتاب: السيد يانيس فاروفاكيس Yanis Varoufakis، نبذة مختصرة عن سيرته الذاتية تجدها في الصفحة الأخيرة.

المصدر: منصة الوميض التجارية Blinkist لتلخيص الكتب.

اسم الكتاب باللغة العربية والإنجليزية:

الإقطاع التكنولوجي: هو الذي قتل الرأسمالية؟

Techno feudalism: What Killed Capitalism, by Yanis Varoufakis

تنصل:

هذه الترجمة لا تعكس بالضرورة تأييدًا أو رفضًا للمحتوى الأصلي، وإنما الهدف منها هو نشر المعرفة وعرض وجهات نظر متنوعة. قد تحتوي المادة المترجمة على معلومات لا تتوافق بالضرورة مع بعض المعتقدات أو التوجهات الشخصية، إلا أنها محاولة جادة لنقل الفكرة الأساسية مع الحفاظ قدر الإمكان على السياق العام، وإن لم تكن الترجمة دقيقة تمامًا. نسعى من خلال هذه الترجمات إلى توسيع آفاق التفكير وتعزيز التواصل الثقافي والفكري، عن طريق تقديم أبحاث ورؤى في مجالات متعددة مثل الصحة، والتقنية، والاقتصاد وغيرها، مما يُتيح للقارئ العربي الاطلاع على مختلف وجهات النظر بلغته الأم، وتعزيز التفاهم بين الثقافات الى جانب تشجيع النقاش الموضوعي للاستفادة منها أو نقدها بشكل واعٍ وبنّاء.

تعريف مختصر بالكتاب من متجر أمازون Amazon:

«من خلال دمج السيرة الفكرية مع التاريخ وأيضا التاريخ الاقتصادي والتكنولوجي، يخلق المؤلف السيد فاروفاكيس Varoufakisجوًا حميميًا يجعل قراءة الكتاب متعة حقيقية… حيث من الصعب قراءة هذا الكتاب دون الاعتراف بقوته… فهو عمل يفتح آفاقًا جديدة.» – حسب صحيفة الواشنطن بوست The Washington Post.

في عملٍ كاشف ورائد، يُقدِّم هذا الكاتب الاقتصادي، الذي يُعد من بين الكتّاب الأكثر مبيعًا عالميًا، رؤية عميقة تُسلِّط الضوء على قوة جديدة وناشئة تُعيد تشكيل حياتنا والعالم من حولنا.

يقول السيد جيفري ساكس (Jeffrey Sachs) هو أحد أبرز المفكرين الاقتصاديين في العالم اليوم عن هذا الكاتب بأنه: «ثيوسيديدس Thucydides عصرنا الحالي.» والسيد ثيوسيديدس هو مؤرخ يوناني قديم، يُعتبر أب التاريخ العلمي.

لقد استبدلت شركات التكنولوجيا الكبرى الركيزتين الأساسيتين للرأسمالية – الأسواق والأرباح – بمنصاتها وعوائدها. مع كل نقرة وتمرير، نعمل مثل الأقنان (العمال) لزيادة قوتها.

مرحبًا بكم في عصر الإقطاع التكنولوجي…

ربما كنا مشغولين جدًا بالجائحة، أو الأزمات المالية المتتالية، أو صعود تطبيق تيك توك TikTok، لكن تحت غطاء كل هذه الأحداث، ظهر نظام جديد أكثر استغلالًا. لقد ذهبت مبالغ هائلة من الأموال التي كان من المفترض أن تعيد تنشيط اقتصاداتنا بعد أزمة 2008 إلى شركات التكنولوجيا الكبرى بدلًا من ذلك. ومن خلالها مولت هذه الشركات إنشاء إقطاعياتها السحابية الخاصة، وخصخصت الإنترنت.

يقول المؤلف السيد يانيس فاروفاكيس Yanis Varoufakis إن “الإقطاع التكنولوجي” هو القوة الجديدة التي تعيد تشكيل حياتنا والعالم، وتمثل التهديد الأكبر حاليًا للفرد الليبرالي، ولجهودنا في تجنب كارثة المناخ، وللديمقراطية نفسها. كما يقف هذا النظام وراء التوترات الجيوسياسية الجديدة، خصوصًا الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين.

بالاعتماد على قصص من الأساطير اليونانية والثقافة الشعبية، من هوميروس Homer إلى مسلسل الرجال المجانين Mad Men، يشرح المؤلف السيد فاروفاكيس هذا التحول الثوري: كيف يستعبد عقولنا، وكيف يعيد كتابة قواعد القوة العالمية، وما الذي يلزم في النهاية للإطاحة به.

المحتوى التالي هو ترجمة للنص الإنجليزي في منصة الوميض Blinkist. وهو مكون من مقدمة وخلاصة نهائية بالإضافة الى ٥ ومضات معرفية. وتعتبر كل ومضة تلخيصا لفصل كامل من الكتاب:

المقدمة – دليلٌ لفهم الديستوبيا dystopia القادمة ما بعد الرأسمالية

الديستوبيا (Dystopia) هي تصور أو وصف لمجتمع خيالي يعيش في ظروف مأساوية أو قمعية، حيث تسود الفوضى، القمع، الظلم، الفساد، وانهيار القيم الإنسانية. وهذا التصور هو عكس اليوتوبيا.

يتذكر المؤلف السيد يانيس فاروفاكيس Yanis Varoufakis ذلك اليوم من عام 1993 عندما ساعد والده على الاتصال بشبكة الإنترنت لأول مرة. كان والده، الشيوعي السابق الذي تقبّل النظام العالمي القائم على مضض، عميق التفكير.

سأل والده حينها: «الآن بعد أن بدأت الحواسيب تتواصل مع بعضها البعض، هل أصبح من المستحيل الإطاحة بالرأسمالية؟ أم أن هذه الشبكة هي نقطة ضعفها؟»

خلال الخمسة عشر عامًا التالية، بدا مستقبل الرأسمالية مستقرًا، وبدا أنها لا تواجه أي تهديد وجوديّ. كانت هناك أزمات مؤقتة وفقاعات اقتصادية، لكن دون خطر حقيقيّ. سقط الاتحاد السوفييتي، ولم تعد الطبقة العاملة التي كان يُعتقد أنها ستدفن الرأسمالية تفكر في الثورة. نما الإنترنت بسرعة كبيرة، وفتح فصلًا جديدًا في قصة تراكم رأس المال التي امتدت لقرون.

ثم جاءت الأزمة المالية العالمية عام 2008. كانت أزمة وجودية بالفعل. يعتقد السيد يانيس فاروفاكيس أن المحاولة اليائسة لإنقاذ الرأسمالية بعد هذه الأزمة كانت السبب في نهايتها، وأدخلتنا في عالم “ديستوبي”، حيث تلعب شركات التكنولوجيا الكبرى دور الأخ الأكبر الذي يراقب الجميع. يرى السيد فاروفاكيس أن الإنترنت كان بالفعل نقطة ضعف الرأسمالية، لكن الضربة القاضية جاءت من أولئك الذين أرادوا إنقاذها.

كيف حدث ذلك ولماذا؟ هذا ما سنتعرف عليه في هذه الومضات المعرفية.

الومضة الأولى – أي نوع من المدن هذه على كل حال؟

تخيل أنك نُقلت فجأة إلى مدينة غريبة.

هي مدينة حيوية ومزدحمة، لكنها عادية من معظم النواحي. المتاجر مليئة بالبضائع المعتادة: أجهزة وألعاب، موسيقى وأفلام، ملابس وأحذية. الناس يشترون، البائعون يغلفون البضائع، وآلات البيع تُدق صناديق الدفع.

لكن وأنت تتجوّل، تلاحظ شيئًا غريبًا: كل مبنى، وكل مقعد في الشارع، وحتى الطريق التي تسير عليها، كلها مملوكة لرجل واحد فقط يُدعى السيد جيف Jeff. ما هو أغرب من ذلك، أن واجهات المحلات تتغير في كل مرة يقف فيها زبون مختلف ليتأملها. تسأل أحد المارّة عن هذا الأمر، فيجيبك بلا مبالاة: «آه، هذه فقط الخوارزمية». بالمناسبة، السيد جيف يمتلك هذه الخوارزمية أيضًا.

تمتلك هذه الخوارزمية قدرة مذهلة على توقّع رغبات الناس. كل منزل يحتوي على “مساعد رقمي” يُدعى «أليكسا Alexa»، يساعدك في ضبط التنبيهات، ويخفف إضاءة غرفتك، ويطلب لك الحليب الطازج. أليكسا تحب المعلومات، وتتبع العادات وتوثق النزوات، فهي تراقب عاداتك وتسجّل رغباتك، وتعرف أغنيتك المفضلة ومتى تستيقظ. وكل هذه المعلومات تصل إلى السيد جيف، فهي في النهاية بياناته هو.

مرحبًا بكم في مدينة أمازون Amazon!

أكبر منصة للتجارة الإلكترونية في العالم قد تبدو كأنها سوق رأسمالية، لكنها ليست كذلك. حتى في الأسواق الاحتكارية التي تسيطر فيها شركة واحدة على السلع والأسعار، يستطيع المشترون التواصل وتبادل المعلومات وتشكيل اتحادات. لكن مستخدمي أمازون لا يتواصلون ولا يتبادلون أي معلومات. لقد تم استبدال «اليد الخفية» للسوق بخوارزمية.

بإلقاء نظرة أقرب، نجد أن موقع أمازون Amazon.com يشبه الإقطاعية أكثر مما يشبه الرأسمالية. في ظل الإقطاع، كان اللوردات الأرستقراطيون يمتلكون جميع الأراضي، وكانوا يقسّمونها إلى إقطاعيات يمنحونها لأتباعهم (الفاسال vassals) مقابل رسوم يدفعونها. قد تكون «أرض» السيد جيف رقمية، لكنها إقطاعية أيضًا. فلكي تتمكن الشركات التابعة (الفاسال) من الوصول إلى مدينة أمازون وعملائها، عليها أن تدفع للسيد جيف ما يصل إلى 50 سنتًا من كل دولار تكسبه.

تعمل شركات فيسبوك Facebook وعلي بابا Alibaba وتيك توك TikTok وأوبر Uber وغيرها من شركات التكنولوجيا الكبرى بنفس الطريقة تقريبًا: كلها تمارس تجارة إقطاعية، تستأجر فيها شركات تابعة أجزاءً من منصاتها. وهذا يطرح سؤالًا مهمًا: هل يمكن اعتبار نظام اقتصادي تهيمن عليه شركات كبرى تدير برمجيات متقدمة على أساس بنية إقطاعية نظامًا رأسماليًا؟ وإن لم يكن كذلك، ألا ينبغي أن نبحث عن اسم جديد لهذا النظام؟ مثل «الإقطاع التكنولوجي» (تكنوفيوداليزم technofeudalism) مثلًا؟ هذه هي الفكرة الأساسية التي سنناقشها في هذه الومضات. لكن أولًا، لنعد خطوة إلى الوراء ونعرّف بعض المصطلحات.

الومضة الثانية – ثروة الأمم

المصطلح الأول الذي يجب أن نعرّفه سهلٌ نوعًا ما: الرأسمالي هو من يملك رأس المال. وما هو رأس المال؟ يعود أصل الكلمة الإنجليزية (Capital) إلى كلمة مشابهة لكلمة «ماشية» (Cattle)، مما يشير إلى أنه نوع من الممتلكات المنقولة. لكنه في الحقيقة أكثر من ذلك.

رأس المال له وظيفة واضحة. بلغة الاقتصاد، هو «وسائل الإنتاج المنتجة»، أو ببساطة أكثر: هو شيء يصنعه البشر لإنتاج أشياء أخرى. السيف على سبيل المثال ليس رأس مال، لأن كل ما «ينتجه» هو الموت. لكن المطرقة تُعتبر رأس مال، وكذلك المحاريث والأنوال والروبوتات التي تجمع السيارات.

الأرض ليست رأس مال؛ فهي ليست من صنع البشر، لكنها تولّد الدخل من خلال الإيجار. تذكّر أولئك التابعين (الفاسال) الذين يدفعون مقابل الوصول إلى التربة الخصبة. قبل ظهور الرأسمالية، كانت الثروة والقوة تأتي من ملكية الأراضي. باختصار، كان الإيجار هو المحرك الأساسي للنظام الإقطاعي.

في ظل الرأسمالية، تأتي الثروة والقوة من رأس المال. يقوم الرأسماليون بإغراء أو إجبار العمال على استخدام رأس المال – كالأدوات والمصانع وخطوط الإنتاج – لإنتاج السلع. الأموال التي يحصلون عليها من بيع هذه السلع تتحول إلى دخل. وبعد طرح تكلفة الاستثمار في رأس المال وأجور العمال، يصل الرأسمالي إلى الهدف المنشود، (الكأس المقدس)، وهو: الربح.

هناك فرق مهم بين الإيجار والربح: فالربح فقط هو المعرّض للمنافسة في السوق. صاحب البقالة يقلق بشأن أرباحه كلما تم افتتاح بقالة جديدة. لكن مالك المبنى الذي توجد فيه البقالة لا يقلق أبدًا. الطلب المتزايد على العقارات يرفع قيمة الأرض والإيجارات. المالك لا يحتاج لفعل أي شيء، فهو يكسب المال حتى وهو نائم.

السيد آدم سميث (Adam Smith) هو فيلسوف واقتصادي أسكتلندي يُعدّ أب علم الاقتصاد الحديث، وهو أحد أوائل من قام بتحليل النظام الرأسمالي الذي ظهر في بريطانيا في القرن الثامن عشر، تحدث كثيرًا عن أصحاب المشاريع المجتهدين مثل صاحب البقالة في مثالنا. بالنسبة للسيد سميث، فإن تعرّض الرأسماليين للمنافسة أجبرهم على إيجاد طرق أكثر كفاءة لتوفير احتياجات الحياة. جشهعم كان فضيلة متناقضة: فالسعي وراء الربح في أسواق شديدة التنافس يضمن الابتكار المستمر. حتى العمال الذين عانوا في البداية من تقليص الأجور، استفادوا في النهاية، لأن زيادة الكفاءة تؤدي في النهاية إلى انخفاض الأسعار للجميع. وهذه هي الوصفة التي رأى السيد سميث أنها تؤدي إلى «ثروة الأمم».

كان السيد سميث يرى اللوردات الإقطاعيين كأعداء طبيعيين لازدهار الرأسمالية. لم يكن الأمر مقتصرًا على رغبتهم في إبقاء الأرض خارج الاستخدام المنتج لرفع الإيجارات بشكل مصطنع، بل كان يقلقه أيضًا ما كانوا يفعلونه بدخلهم. فالعمال ينفقون أجورهم على السلع التي ينتجها الرأسماليون. ويقوم الرأسماليون بإعادة استثمار أرباحهم في آلات جديدة للحفاظ على تفوقهم التنافسي. أما دخل الإيجارات فيتم تخزينه في أصول للمضاربة مثل العقارات والفنون. ولا يتم تداوله، مما يحرم الاقتصاد من الاستثمار ويقوّض النمو.

الومضة الثالثة – رأس المال السحابي “Cloud capital”

والآن بعد أن عرّفنا بعض المصطلحات، يمكننا البدء في التفكير حول موقع شركات التكنولوجيا الكبرى (Big Tech) على طيف الإقطاعية – الرأسمالية.

تذكّر ما قلناه عن الرأسماليين: إنهم يدفعون للعمال مقابل استخدام رأس المال لصناعة أشياء. يمكننا استخدام هذه المفاهيم الثلاثة – السلع، العمال، ورأس المال – كنقاط مرجعية.

شركات التكنولوجيا الكبرى لا تنتج سلعًا بالفعل. فشركة جوجل Google مثلًا لا تبيع نتائج البحث، والمساعد الرقمي أليكسا لا تطلب رسومًا للإجابة عن الأسئلة. ولا يبدو أيضًا أن شركات التكنولوجيا الكبرى قلقة بشكل خاص بشأن الأرباح. شركة أوبر، على سبيل المثال، سجّلت أول أرباح ربع سنوية لها في عام 2023، بعد أن أمضت عقدًا ونصف في تسجيل خسائر.

ثم هناك العمالة. الشركات الرأسمالية الكبرى مثل جنرال موتورز General Motors تخصص عادةً 80 بالمئة من دخلها لدفع أجور ورواتب قوتها العاملة الضخمة. في المقابل، تعمل شركات التكنولوجيا الكبرى فتعمل بطواقم محدودة للغاية، حيث تحصل عادةً على واحد بالمئة فقط من دخل أصحاب العمل.

وأخيرًا، هناك رأس المال. نحن معتادون على رؤية وسائل الإنتاج – مثل «المصانع الشيطانية المظلمة» التي انتشرت في بريطانيا خلال ذروة عصرها الصناعي. «رأس المال السحابي» له بصمة أصغر: فشركات التكنولوجيا الكبرى تخفي مراكز بياناتها في مستودعات مجهولة وتدفن الألياف الضوئية تحت الأرض. لكن رأس المال السحابي ليس رأس مال تقليدي. فهو ليس «وسيلة إنتاج منتجة»، أو الوسائل التي صنعها الإنسان لإنتاج أشياء أخرى كما تحدثنا عنها سابقًا. في الواقع، إنه وسيلة منتجة لتعديل السلوك البشري.

ما تريده الشركات أمثال شركة فيسبوك Facebook وشركة تيك توك TikTok وشركة إنستغرام Instagram وشركة يوتيوب YouTube وغيرها من هذه المنصات هو الاستفادة من اقتصاديات “الانتباه attention “. هذه الشركات لا تكترث كثيرًا للاشتراكات أو المبيعات، لأن ذلك ليس هدفها الرئيسي. الهدف الحقيقي هو إدخال التطبيقات والخوارزميات إلى منازلنا، وعلى شاشاتنا، وداخل عقولنا.

“الانتباه” بالنسبة لشركات التكنولوجيا الكبرى هو بمثابة الأرض الخصبة بالنسبة للوردات الإقطاعيين. عندما نكون محصورين داخل أسوار إقطاعية رقمية، لا يمكن للرأسماليين التقليديين الذين ينتجون السلع ولا لخبراء التلاعب الذين يوظفونهم للإعلان عن منتجاتهم أن يصلوا إلينا. إلا إذا فتح أسياد هذه الإقطاعيات البوابات وسمحوا لهم بالدخول. وبالطبع، هم يفعلون ذلك – ولكن بمقابل مادي.

إلى الآن، الصورة إقطاعية تمامًا. لكن ماذا عن الجانب «التكنولوجي» (التكنوtechno )؟ حسنًا، بمجرد الحصول على “انتباهنا”، يمكن لشركات التكنولوجيا الكبرى تعديل سلوكنا. في البداية، تبني خوارزمياتها الثقة؛ فمنصة سبوتيفاي Spotify للبرامج الاذاعية والموسيقية والغنائية مثلًا تتعلم باجتهاد ما نحب، والمساعد الرقمي أليكسا تساعدنا في المهام المنزلية. ثم تقوم هذه الخوارزميات بدفعنا إلى تقديم المزيد من المعلومات حتى تتمكن من تلبية رغباتنا بشكل أفضل. نحن ندربها لتدربنا هي بدورها لنقوم نحن بتدريبها مجددًا. هذه الدورة تحبسنا داخل إقطاعياتها. فحتى لو كانت جودة صوت منصة سبوتيفاي أقل من منافسيها، فإن المستخدمين غالبًا لن يبدّلوا هذه الخدمة، لأن تلك الخوارزميات ببساطة لا تعرفهم كما تعرفهم منصة سبوتيفاي.

الومضة الرابعة – الأقنان (العمال) الرقميون

الإقطاع التكنولوجي الذي تفرضه شركات التكنولوجيا الكبرى لم تقضِ تمامًا على الرأسمالية – ليس بعد على الأقل. في الوقت الراهن، النظامان متعايشان: يعمل الكثير منا في أسواق العمل الرأسمالية ويلعبون داخل إقطاعيات رقمية.

لكن هناك تحولاً في ميزان القوة. إذ أصبحت الرأسمالية الآن تلعب دورًا ثانويًا خلف شركات التكنولوجيا الكبرى.

أصحاب وسائل الإنتاج – أولئك الرأسماليون المجتهدون، المتعطشون للربح، الذين مدحهم السيد آدم سميث – لم يعودوا يحكمون العالم. لقد أصبح قادة الصناعة الأبطال في الأمس مجرد تابعين اليوم. إن الرأسماليين التابعين الذين يفشلون في دفع ما عليهم للسيد الكبير قيصر (كبار شركات التكنولوجيا) يمكن القضاء عليهم بضغطة زر واحدة. فكل ما تحتاجه شركة جوجل Google لتدمير شركة ما هو حذفها من نتائج البحث. لدى شركة فيسبوك Facebook وشركة آبل Apple وشركة إكس X وسائلهم الخاصة للحظر أيضا، والحجب الخفي، وإزالة الحسابات التي لا تخضع للقواعد. الشركات الصغيرة معرضة أيضًا لهذا الخطر. مشاة الكلاب في مقاطعة ألبرتا Alberta الكندية، والباعة الجائلون في مدينة جاكرتا الأندنوسية، وسائقو شركة أوبر في مدينة برشلونة الاسبانية، جميعهم يعتمدون اليوم على إقطاعيات رقمية تفرض عليهم رسومًا للوصول إلى عملائهم.

كيف اكتسبت شركات التكنولوجيا الكبرى هذه السلطة على حياتنا؟ المفارقة أننا نحن من قام بمعظم العمل الشاق. خذ منصة إنستغرام مثالًا. هي لا تصنع أي شيء بنفسها – مستخدموها هم الذين يفعلون. في كل يوم، يرفع ملايين الأشخاص الصور ومقاطع الفيديو والقصص. كل ما على منصة إنستغرام فعله هو تشغيل الخوارزمية التي قمنا نحن بتدريبها على فرز وترتيب وترويج المحتوى بأكثر الطرق إدمانًا. وشركة أوبر للتوصيل بالمثل، تدير نفسها بنفسها إلى حد كبير. كل ما تقوم به خوارزميتها هو ربط مجموعة من البائعين – السائقين – بالعملاء المحتملين. وهذه القصة تتكرر عبر شركات التكنولوجيا الكبرى.

هناك تشبيه إقطاعي مناسب هنا. لقد تحدثنا عن اللوردات والتابعين، لكننا لم نلقِ نظرة على العمال في هذا النظام – الأقنان. هؤلاء الفلاحون وُلدوا ضمن عقد اجتماعي غير متكافئ. في مقابل الحق في العيش على أراضي سيدهم، كانوا يحرثون الأرض ويرعون الماشية ويعتنون بالحقول ويجمعون المحاصيل. وعندما يأتي وقت الحصاد، يأتي مأمور السيد الإقطاعي ليجمع «الإيجار» – وهو الجزء الأكبر مما أنتجوه.

وللوردات الإقطاعيين التكنولوجيين أيضًا أقنانهم الرقميون: وهم المستخدمون. كلما أرسلت بريدًا إلكترونيًا أو نشرت صورة أو جادلت غرباء عبر الإنترنت، فأنت تدفع «الإيجار الرقمي». مجرد اتصال هاتفك بتطبيقات مثل خرائط جوجل يولّد فوائض ذات قيمة كبيرة لشركات التكنولوجيا الكبرى. لا يوجد إكراه هنا، على الرغم من ذلك: نحن نستمتع بهذا العمل. لو لم نكن كذلك، لما قضينا الكثير من وقتنا في إنشاء كل هذه البيانات لأصحاب رأس المال السحابي.

إذن، بالعودة إلى نقطة ذكرناها سابقًا، هذا هو السبب في أن شركات التكنولوجيا الكبرى تخصص حوالي واحد بالمائة فقط من دخلها للأجور: لأن الأشخاص الذين يقومون بمعظم العمل يفعلونه مجانًا!

الومضة الخامسة – الانهيار

إذن كيف وصلنا إلى هذه الدرجة من العبودية الرقمية؟

للإجابة على ذلك، علينا العودة إلى عام 2008.

عندما انفجرت فقاعة الإسكان الأمريكية في ذلك العام، أرسلت موجات صادمة عبر الاقتصاد العالمي. كانت جميع المؤسسات المالية الكبرى تقريبًا على شفا الانهيار. باختصار، كانت الرأسمالية في أزمة. ضخت الحكومات والبنوك المركزية الأموال بشكل هائل لحل المشكلة، حيث طُبع تريليونات الدولارات وخُفضت أسعار الفائدة الى ما يقرب من الصفر.

كان التيسير الكمي Quantitative easing، كما أُطلق على هذه السياسة، أكبر حدث للسيولة في تاريخ الرأسمالية. إجمالاً، تم ضخ حوالي 35 تريليون دولار في الاقتصادات الراكدة. كانت الفكرة هي: منح الرأسماليين أموالًا مجانية، وسيستثمرونها في أشياء مفيدة. لكن المصانع المنتظرة والوظائف التي كان من المفترض أن توفر المال للناس العاديين لم تتحقق أبدًا.

رافق التيسير الكمي سياسة “التقشف austerity”، وهي برامج حكومية تقلص الإنفاق وتضعف الطلب في محاولة عقيمة لتقليل نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي. مستلمو الأموال الجديدة التي وفرتها البنوك ألقوا نظرة واحدة على أسواق المستهلكين الراكدة وقالوا “لا شكرًا”. وبدلاً من الاستثمار في المنتجات والخدمات، انطلقوا في موجة إنفاق جامحة.

موجة المضاربات التي تلت ذلك كانت “ارتفاعًا في كل شيء”. الفن، العقارات، الأسهم، السندات، وحتى صور القردة الرقمية – أي شيء يخطر ببالك اشتروه. بدلًا من دخولها في التداول الاقتصادي، اختفت هذه الأموال داخل أصول تدر الإيجارات. إذا تساءلت يومًا لماذا ارتفعت إيجارات المساكن بشكل جنوني في العديد من المدن الامريكية بعد 2008، فهذا هو السبب. التيسير الكمي يشرح أيضًا كيف نجت شركات مثل شركة أوبر رغم عدم تحقيقها أي أرباح: لقد ركبت موجة السيولة التي تدفقت إلى وادي السيليكون. تسعة من كل عشرة دولارات تم ضخها في تطوير شركات التكنولوجيا الكبرى مثل شركة فيسبوك تم استحداثها من العدم من قبل البنوك المركزية.

شركات التكنولوجيا الكبرى استثمرت بالفعل في رأس المال – لكنه كان “رأس مال سحابي”، وليس رأس مال رأسمالي تقليدي. بدلًا من توجيه الأموال نحو وسائل إنتاج أشياء أخرى، قامت هذه الشركات بقدرة فائق من الصبر لبناء وسائل احتكار انتباهنا وتعديل سلوكنا. هكذا أنشأت وعززت شركات التكنولوجيا الكبرى إقطاعيات رقمية يتعين على الرأسماليين الآن أن يدفعوا للدخول إليها.

المفارقة هنا هي أن الحكومات والبنوك حاولت إنقاذ الرأسمالية في عام 2008، لكن العلاج كان أسوأ من المرض. عمليات الإنقاذ المالي التي تلت الأزمة المالية العالمية قد تُسجَّل في التاريخ باعتبارها السبب وراء صعود الإقطاع التكنولوجي، وزوال الرأسمالية.

خلاصة نهائية

في هذه الومضات لكتاب “الإقطاع التكنولوجي” للمؤلف السيد يانيس فاروفاكيس Yanis Varoufakis، تعلمت ما يلي:

الإقطاع نظام قائم على الإيجار، يستخدم فيه الإقطاعيون احتكارهم للأرض لفرض رسوم على التابعين لهم. وعلى النقيض من ذلك، فإن الرأسمالية موجهة نحو تحقيق الربح؛ حيث يدفع الرأسماليون للعمال مقابل استخدام أدواتهم لخلق سلع وخدمات جديدة مربحة تُباع في الأسواق الحرة. ولكن الربح والأسواق لم تعد تحكم اقتصاداتنا اليوم. حاليًا، شركات التكنولوجيا الكبرى هي من تهيمن على العالم. استبدلت هذه الشركات الأسواق بمناطق تجارية محصنة، محولةً الرأسماليين إلى تابعين يدفعون الإيجار، والمواطنين العاديين إلى أقنان رقميين يعملون دون أجر.

نبذة مختصرة عن المؤلف

السيد يانيس فاروفاكيس Yanis Varoufakis اقتصادي يوناني شهير، ومؤلف وشخصية سياسية بارزة، اشتهر بشكل خاص خلال فترة عمله وزيرًا للمالية في اليونان عام 2015، في ذروة أزمة الديون التي عصفت بالبلاد. وُلد في أثينا عام 1961، وقضى معظم مسيرته الأكاديمية أستاذًا للاقتصاد في بريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة، ويُدرّس حاليًا في جامعة أثينا University of Athens.

السيد يانيس فاروفاكيس هو مؤلف العديد من الكتب الأكثر مبيعًا على المستوى الدولي، بما في ذلك:

  1. “راشدون في الغرفة Adults in the Room”، وهي مذكرات جريئة تكشف تفاصيل فترة عمله في الحكومة، وتقدم نظرة عميقة لما يدور خلف كواليس المؤسسة السياسية الأوروبية.
  2. “الضعفاء يعانون ما يجب عليهم؟ The Weak Suffer What They Must?” ، وهذا الكتاب يستكشف العيوب الهيكلية لمنطقة اليورو والإخفاقات السياسية التي فاقمت أزماتها.
  3. “حديث إلى ابنتي عن الاقتصاد Talking to My Daughter About the Economy”، شرح مبسط ومحفز للتفكير حول الرأسمالية والاقتصاد، كُتب على شكل رسالة موجهة لابنته المراهقة.

بعد ترك منصبه، شارك السيد فاروفاكيس في تأسيس حركة DiEM25 (حركة الديمقراطية في أوروبا 2025)، وهي حركة شعبية دولية تهدف إلى إحياء الديمقراطية وتعزيز الشفافية في الحكم الأوروبي. يتمتع بشهرة واسعة بسبب خطاباته الجذابة وانتقاداته اللاذعة للتوجهات الاقتصادية التقليدية، وما زال يواصل تفاعله مع الجمهور فب مختلف العالم من خلال محاضراته العامة وكتاباته ونشاطه السياسي.

Previous post ثروتك تبدأ من فهمك لنفسك… اكتشف علم سيكولوجية المال

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *