شيفرة الأمعاء والدماغ: كيف تحدد ميكروباتك مصيرك النفسي والعقلي

ومضات معرفية من كتاب “مفارقة الأمعاء والدماغ: حسّن مزاجك، تخلّص من ضبابية دماغك، وأعكس مسار أمراضك من خلال شفاء ميكروبيوم أمعائك”

 

ترجمة وبتصرف: عبدالله سلمان العوامي

تاريخ نشر الترجمة: ٢٥ مايو ٢٠٢٥م

تاريخ اصدار الكتاب بغلاف ورقي ومقوى: ١٥ ابريل ٢٠٢٥م

مؤلف الكتاب: الدكتور ستيفن ر. جاندري Dr. Steven R. Gundry، نبذة مختصرة عن سيرته الذاتية تجدها في الصفحة الأخيرة.

المصدر: منصة الوميض التجارية Blinkist لتلخيص الكتب.

اسم الكتاب باللغة العربية والإنجليزية:

مفارقة الأمعاء والدماغ: حسّن مزاجك، تخلّص من ضبابية دماغك، وعالِج أمراضك من خلال شفاء ميكروبيوم أمعائك

The Gut-Brain Paradox: Improve Your Mood, Clear Brain Fog, and Reverse Disease by Healing Your Microbiome

تنصل:

هذه الترجمة لا تعكس بالضرورة تأييدًا أو رفضًا للمحتوى الأصلي، وإنما الهدف منها هو نشر المعرفة وعرض وجهات نظر متنوعة. قد تحتوي المادة المترجمة على معلومات لا تتوافق بالضرورة مع بعض المعتقدات أو التوجهات الشخصية، إلا أنها محاولة جادة لنقل الفكرة الأساسية مع الحفاظ قدر الإمكان على السياق العام، وإن لم تكن الترجمة دقيقة تمامًا.

نسعى من خلال هذه الترجمات إلى توسيع آفاق التفكير وتعزيز التواصل الثقافي والفكري، عن طريق تقديم أبحاث ورؤى في مجالات متعددة مثل الصحة، والتقنية، والاقتصاد وغيرها، مما يُتيح للقارئ العربي الاطلاع على مختلف وجهات النظر بلغته الأم، وتعزيز التفاهم بين الثقافات الى جانب تشجيع النقاش الموضوعي للاستفادة منها أو نقدها بشكل واعٍ وبنّاء.

تعريف مختصر بالكتاب من شركة أمازون Amazon:

الدكتور ستيفن ر. جاندري Dr. Steven R. Gundry، مؤلف سلسلة “مفارقة النبات Plant Paradox” الأكثر مبيعًا في صحيفة نيويورك تايمز New York Times، يشارك أدلة مقنعة على أن ميكروبيوم microbiome الأمعاء لدينا هو الذي يتحكم في أفكارنا، ومشاعرنا، وسلوكياتنا، وصحتنا الذهنية والعاطفية والعصبية — ويبين لنا كيف يمكننا شفاء ميكروبيوماتنا لاستعادة السيطرة على عقولنا.

في كتبه السابقة الأكثر مبيعًا، علّم الدكتور ستيفن ر. جاندري القراء كيفية عكس مسار الأمراض وتحسين الصحة والرفاهية عن طريق منع وإصلاح تسرب الأمعاء. في كتاب “مفارقة الأمعاء والدماغ” (The Gut-Brain Paradox)، يتعمق أكثر في العالم الغامض وسوء الفهم الطويل للميكروبيوم البشري. هنا يكشف الدكتور جاندري عن الطرق المعقدة والمتعددة الأوجه التي تتحكم بها ميكروباتنا في صحة ووظيفة أدمغتنا، وكيف تتشكل العلاقة بين الأمعاء والدماغ قبل ولادتنا بوقت طويل.

يُسلط هذا الكتاب “مفارقة الأمعاء والدماغ The Gut-Brain Paradox” الضوء بشكل مثير على كيفية تضافر مشكلتي: ١) تسرب الأمعاء و٢) اضطراب توازن ميكروبات الأمعاء (الدسبايوسيس dysbiosis)، واللتين تسببهما الأنظمة الغذائية (الحمية) الغربية، والإفراط في استخدام المضادات الحيوية والأدوية الأخرى، والسموم البيئية، لتمكين البكتيريا الضارة من السيطرة. هذه “الميكروبات السيئة” تسبب الالتهاب وتخطف أنظمة التواصل الدقيقة الممتدة من الأمعاء إلى الدماغ، مما يمهد الطريق لحدوث تغيرات عصبية، وضبابية في التفكير، وتدهور عصبي، ومشكلات في الصحة النفسية، وتغيرات في الشخصية، وحتى الإدمان.

ومع ذلك، فإن هذه التغيرات قابلة لعكس مسارها. وبالاستناد إلى أحدث الأبحاث العلمية، ووصفات غذائية سهلة التطبيق، وأدلة للمكملات الغذائية، يوضح لنا كتاب “مفارقة الأمعاء والدماغ” كيف يمكننا أن نأكل ليس فقط لاستعادة التوازن الداخلي، بل لاستعادة الطاقة الذهنية والصحة النفسية أيضا.

المحتوى التالي هو ترجمة للنص الإنجليزي في منصة الوميض Blinkist. وهو مكون من مقدمة وخلاصة نهائية بالإضافة الى ٦ ومضات معرفية. وتعتبر كل ومضة تلخيصا لفصل كامل من الكتاب:

مقدمة – اكتشف كيف تؤثر صحة أمعائك بصمت على مزاجك، وتركيزك، وشهيتك، ووظائف دماغك على المدى الطويل

تُعيد العلوم الحديثة تعريف مفهوم العقل السليم بشكل جذري. لطالما قيل لنا إن صفاء الذهن، والتوازن العاطفي، والمرونة الإدراكية، تعتمد على كيمياء الدماغ أو العادات الشخصية أو السمات الوراثية. لكن الأبحاث المتزايدة تشير إلى عامل أعمق – نظام داخلي ظل يشكل سلوك الإنسان منذ آلاف السنين ويعمل إلى حد كبير خارج نطاق الوعي.

هذا النظام هو الميكروبيوم microbiome الخاص بك. يتكون من تريليونات البكتيريا، أغلبها يعيش في جهازك الهضمي. صحيح أن دورها الأساسي دعم عملية الهضم، لكنها تؤثر أيضًا في الاستجابات المناعية، وإنتاج الهرمونات، وطريقة تعامل الجسم مع التوتر والدوافع (التحفيز) والمكافآت. وعندما يطرأ تغيير على هذا النظام، يتغير معه إدراكك لتجارب حياتك اليومية.

في هذه الومضات، ستتعرف كيف تؤثر هذه الكائنات الدقيقة في أمعائك على كل شيء بدءًا من الشهية والإدمان وصولًا إلى المزاج والذاكرة. وستكتشف كيف تساهم إشاراتها في توجيه تطور الدماغ، والصحة النفسية، والشيخوخة – وماذا يعني ذلك لطريقة أكلنا وتفكيرنا وحياتنا.

لنبدأ أولاً بفهم مدى السيطرة التي يتمتع بها الميكروبيوم لديك بالفعل.

الومضة الأولى – أمعاؤك تشكّل عقلك أكثر مما تعتقد

نصف الخلايا في جسمك هي خلايا ميكروبية، وغالبية هذه الخلايا تعيش في أمعائك. يُعرف هذا النظام البيئي الداخلي باسم ميكروبيوم الأمعاء، ويضم تريليونات من البكتيريا تنتمي إلى آلاف الأنواع. تتفاعل هذه البكتيريا مع كل جهاز في الجسم تقريبًا، وتلعب دورًا رئيسيًا في تنظيم الالتهابات، ومستويات الهرمونات، والاستجابة المناعية. وما أصبح واضحًا الآن هو أن هذه المجموعة الميكروبية تلعب أيضًا دورًا محوريًا في تشكيل كيفية عمل الدماغ.

الأمعاء متصلة مباشرة بالدماغ من خلال العصب المبهم (Vagus nerve)، وهو حزمة سميكة من الألياف تحمل إشارات صاعدة من الأمعاء إلى الدماغ أكثر من الإشارات النازلة من الدماغ إلى الأمعاء. تؤثر الميكروبات على هذه الإشارات من خلال إنتاجها لمواد “ما بعد حيوية postbiotics” – وهي مركبات كيميائية تنتج أثناء الهضم وتتصرف مثل النواقل العصبية. تشمل هذه المركبات الدوبامين dopamine، والسيروتونين serotonin، وحمض الغاما-أمينوبيوتيريك GABA، والتي تساعد في تنظيم الاستقرار العاطفي والطاقة العقلية وحساسية التوتر. كما تؤثر المواد ما بعد الحيوية أيضًا على نفاذية جدار الأمعاء وسلوك الخلايا المناعية، مما ينعكس على مستويات الالتهاب في جميع أنحاء الجسم.

عندما يكون الميكروبيوم في حالة صحية جيدة، فإن هذه الإشارات تدعم صفاء الذهن والتركيز والتوازن العاطفي. أما عند اختلال توازن الميكروبات – بسبب النظام الغذائي أو المضادات الحيوية أو التوتر أو السموم البيئية – فإن أنماط الإشارات تتغير. قد تهيمن سلالات بكتيرية معينة لأنها تزدهر على السكريات أو الدهون المصنعة. ويمكن لهذه الميكروبات أن تعزز الرغبة الشديدة في تناول المواد التي تساعدها على التكاثر. وقد تحفز أيضًا إفراز هرمونات التوتر أو تتداخل مع إشارات الشبع الطبيعية في الجسم، مما يؤدي إلى دورات من القلق والاندفاع وضعف التركيز.

لقد تم ربط بعض الأنواع البكتيرية بسمات شخصية معينة. فارتفاع مستويات بكتيريا محددة يرتبط بزيادة العُصابية، وسرعة الانفعال، والسلوك القهري. كما أظهرت تجارب أُجريت على الفئران أن تعديل الميكروبيوم يمكن أن يغير المزاج والسلوك الاجتماعي وحتى بنية الدماغ. للمعلومية: العُصابية تشير إلى نمط من التفكير أو السلوك يتميز بالقلق المفرط، الخوف، عدم الاستقرار العاطفي، والتحسس الزائد للمشكلات.

إن تأثير ميكروبات الأمعاء واسع الانتشار وغالبًا ما يكون خفيًا. ولمعرفة أسباب أفكارك وقراراتك، من المفيد أن تأخذ في الاعتبار الإشارات الصادرة من أمعائك. في الومضة التالية، ستتعلم كيف توجه هذه الإشارات عادات الأكل، والشهية، والشعور بالشبع بعد الوجبات.

الومضة الثانية – رغباتك الشديدة ليست صادرة منك

يعتقد الكثير من الناس أن الجوع هو مجرد استجابة بسيطة لاحتياجات الجسم من الطاقة. لكن إحساسك بالجوع، ورغباتك الشديدة في تناول الطعام، وحتى تفضيلاتك الغذائية تتشكل بواسطة كائنات وليس أنت. فالبكتيريا الموجودة في أمعائك متورطة بعمق في تحديد متى تشعر بالجوع، وما الذي ترغب في تناوله، ومدى شعورك بالرضا بعد تناول الطعام. وغالبًا ما تعكس هذه القرارات احتياجات الميكروبات، وليس ما يحتاجه جسمك فعليًا.

هذه الأولويات الميكروبية هي في الواقع نتيجة مباشرة لتركيبة الميكروبيوم – فهو مجتمع متنوع تعتمد فيه الأنواع البكتيرية المختلفة على مغذيات محددة للبقاء على قيد الحياة. فبعضها يزدهر على السكر والدهون المصنعة، بينما يزدهر البعض الآخر على الألياف أو النشويات المقاومة. وعندما تكتسب مجموعة معينة الأفضلية، تبدأ بالتأثير على الإشارات الكيميائية للحفاظ على سيطرتها. إذ تطلق بعض البكتيريا مستقلبات (metabolites) تنشط هرمونات الجوع أو تحفز إفراز الدوبامين بعد تناول الأطعمة عالية السكر. بينما تبطئ أخرى الإشارات التي تخبر الدماغ عادةً بأنك قد شبعت. والنتيجة هي تحول في تنظيم الشهية يخدم نمو الميكروبات أكثر من صحتك على المدى الطويل.

يتجلى هذا التلاعب الميكروبي بطرق دقيقة ولكن قابلة للقياس. غالبًا ما يشعر الأشخاص الذين يعانون من اختلال في الميكروبيوم بالجوع بعد فترة وجيزة من تناول الطعام. وقد يواجهون رغبات متكررة لتناول الأطعمة فائقة المعالجة، والتي تغذي مباشرة سلالات البكتيريا المهيمنة لديهم. يصبح الشعور بالرضا والاحساس بالشبع أصعب منالاً، وتصبح دورة الأكل والشهوة أصعب كسرًا. هذا النمط هو نمط كيميائي حيوي. فالأمعاء ترسل إشارات تتجاوز السيطرة الواعية.

لقد أظهرت بعض الدراسات حتى أن زرع بكتيريا الأمعاء من أشخاص يعانون من زيادة الوزن في أشخاص نحيفين يمكن أن يزيد من الشعور بالجوع وزيادة الوزن لدى المتلقين. وتشير هذه النتائج إلى تفسير أكثر تعقيدًا للاضطرابات الأيضية من مجرد قوة الإرادة أو عدد السعرات الحرارية. فالميكروبيوم يلعب دورًا نشطًا في دفع الإفراط في الأكل وإدمان الطعام.

فهم الجوع كعملية مشتركة بينك وبين الميكروبات التي تعيش في جسدك يساعد في تفسير لماذا تبدو بعض محاولات تغيير العادات الغذائية وكأنها معركة شاقة. في الومضة التالية، ستتعرف على ما الذي يجعل بعض أنواع البكتيريا أكثر خطورة من غيرها – وكيف يمكن لأقل جرعات من منتجاتها الثانوية أن تعيد تشكيل وظائف الدماغ بمرور الوقت.

الومضة الثالثة – السموم الصغيرة يمكن أن تدرب الدماغ أو تضرّه.

قد تبدو الجرعات الصغيرة من السموم البكتيرية غير ذات صلة بصحة الدماغ، لكنها يمكن أن تؤثر بشكل مفاجئ وكبير. ومن أقوى الأمثلة على ذلك هو LPS ليبوپوليسكاريد (Lipopolysaccharide)، وهو جزء من جدار الخلية لبعض أنواع البكتيريا سالبة الجرام، وله دور كبير في تحفيز الجهاز المناعي. عندما يتسرب LPS إلى مجرى الدم بكميات منخفضة، يكون له تأثير في توليد موجة بطيئة وثابتة من الالتهاب التي يمكن أن تعطل أنظمة عديدة في الجسم، بما في ذلك الدماغ.

هذا النوع من التعرض، والذي يُسمى أحيانًا الالتهاب تحت السريري أو الالتهاب المزمن، يمكن أن يغير طريقة استجابة الجهاز المناعي مع مرور الوقت. يبقى الجسم في حالة تأهب منخفضة، مما يؤدي إلى تغييرات خفية ولكن مستمرة في كيفية تواصل الخلايا العصبية وكيفية تنظيم الطاقة العقلية. يمكن أن تصل جزيئات LPS ونواتج الميكروبات الأخرى إلى الدماغ وتفعّل الخلايا الدبقية الصغيرة (الميكروغليا). (microglia) – وهي الخلايا المناعية في الجهاز العصبي المركزي. وعندما يتم تحفيز الخلايا الدبقية الصغيرة بشكل مفرط، فإنها تتحول من دورها الطبيعي في الصيانة إلى حالة تفاعلية، فتطلق مركبات التهابية تتداخل مع وظائف الدماغ وتزيد من خطر التدهور المعرفي.

ما يجعل هذا المسار أكثر صعوبة في الاكتشاف هو أن تأثيراته ليست فورية. قد يشعر الناس بتعب أكبر أو تهيج أو نسيان دون أن يدركوا أن هذه التغيرات مرتبطة باستجابة مناعية داخلية مزمنة. مع مرور الوقت، يساهم هذا النمط في ضبابية الدماغ، وعدم استقرار المزاج، وفي بعض الحالات، في حالات تشبه الزهايمر Alzheimer وباركنسون Parkinson.

ومن المفارقات أن الجرعات الصغيرة جدًا من بعض مكونات البكتيريا يمكن أن يكون لها أيضًا تأثير معاكس. إذ يمكن أن تساعد في تدريب الجهاز المناعي على تحمل الإشارات الميكروبية بدلاً من المبالغة في رد الفعل تجاهها. هذا يفسر سبب أن الأنظمة الغذائية التقليدية الغنية بالأطعمة المخمرة، والبقوليات، والألياف الخشنة – التي كانت تُعتبر سابقًا خطرة على الهضم – تساعد في الواقع على دعم الاستقرار العقلي والعاطفي. هذه الأطعمة تغذي الميكروبات الصحية المفيدة وتنتج كميات مناسبة من المواد الميكروبية التي تحافظ على توازن الجهاز المناعي بدلاً من تحفيز الالتهاب.

إن فهم كيفية تأثير المنتجات الثانوية للميكروبات على الدماغ يكشف مدى حساسية العلاقة بين الجهاز المناعي والميكروبيوم حقًا. في الومضة التالية، سترى ما يحدث عندما تنحرف هذه العلاقة تمامًا عن مسارها – خاصة في الحالات التي تبدأ فيها الإشارات الميكروبية بتعزيز الإدمان بشكل كامل.

الومضة الرابعة – الإدمان هو استراتيجية بقاء للميكروبيوم

قد تبدو السلوكيات الإدمانية وكأنها فشل في قوة الإرادة، لكن ما يحدث تحت السطح يروي قصة أكثر تعقيدًا. يلعب الميكروبيوم دورًا رئيسيًا في تشكيل العادات، والرغبات الشديدة، وحتى التبعية. بعض الميكروبات تستفيد بشكل مباشر من المواد الإدمانية – وقد تطورت لديها وسائل لإبقاء المضيف يعود إليها مرارًا وتكرارًا.

إحدى الطرق الأساسية التي تمارس بها هذه الميكروبات تأثيرها تبدأ من داخل الأمعاء، حيث تستجيب بعض سلالات البكتيريا للكحول أو المواد الأفيونية أو النيكوتين وكأنها مصادر غذائية. يمكن لهذه المواد أن تساعد بعض الميكروبات على النمو، مما يمنحها ميزة تنافسية. ومع تكاثرها، فإنها تؤثر على الرسائل الكيميائية المرسلة إلى الدماغ. وتحديدًا، يمكن أن تزيد هذه الإشارات الميكروبية من التوتر، وتعزز البحث عن المكافأة، أو تعزز الرغبة الشديدة. وبهذا، يبدأ الميكروبيوم في دفع السلوكيات التي تصب في مصلحته للبقاء. ومع مرور الوقت، يتكون حلقة تغذية راجعة: فكلما استخدم المضيف المادة أكثر، كلما تغير الميكروبيوم لصالح البكتيريا التي تعتمد عليها.

الأدلة الداعمة لهذا الدور الميكروبي في الإدمان تتزايد باستمرار. فعلى سبيل المثال، أظهرت الدراسات الحيوانية أن تغيير الميكروبيوم يمكن أن يغير من مدى رغبة الكائن في البحث عن المواد الإدمانية. في بعض الحالات، أدى نقل بكتيريا الأمعاء من أفراد مدمنين إلى غير مدمنين إلى زيادة سلوك البحث عن المادة لدى المستقبل. وهذا يشير إلى أن التوازن الميكروبي نفسه يمكن أن يخلق أو يعزز الدافع لاستخدام المواد الإدمانية. علاوة على ذلك، أظهرت نتائج دراسات بشرية أيضًا أن اضطراب توازن ميكروبات الأمعاء (الدسبايوسيس dysbiosis) – أي التحول غير الصحي في تركيبة الميكروبيوم – مرتبط بزيادة القلق والاندفاع وفقدان السيطرة. وهذه سمات شائعة في الإدمان وغالبًا ما يُساء فهمها على أنها نفسية فقط.

تمتد هذه التأثيرات الميكروبية إلى ما هو أبعد من السلوك. فهي أيضًا تشكل جهاز المناعة وإنتاج الهرمونات، مما قد يرفع من مستويات الالتهاب ويغير من طريقة معالجة الدماغ للمكافأة والعقاب. وفي أي دماغ ما تعرض بالفعل لمحفزات إدمانية، تجعل هذه التغييرات من التعافي أمرًا أكثر صعوبة. كما يمكن أن تكون أعراض الانسحاب مدفوعة جزئيًا بإشارات الإجهاد الميكروبية عندما يتم فجأة حرمانها من المواد التي تعتمد عليها.

إن فهم الإدمان من خلال عدسة الميكروبيوم يفتح الباب أمام استراتيجيات جديدة للوقاية والعلاج – استراتيجيات تركز على معالجة الإشارات الميكروبية الكامنة بدلاً من الاكتفاء بعلاج الأعراض الظاهرة فقط. في الومضة التالية، سننظر عن كثب في كيفية ارتباط الاضطراب الميكروبي بمشكلات الصحة النفسية الشائعة الأخرى مثل القلق والاكتئاب واضطرابات الأكل.

الومضة الخامسة – اضطرابات الصحة النفسية تعكس اختلال التوازن الميكروبي

حتى الآن، تطرقنا إلى كيفية تأثير اختلال التوازن الميكروبي على سمات مثل القلق وأنماط الأكل المضطربة، والآن نغوص بشكل أعمق في كيفية ظهور هذه الاضطرابات في حالات الصحة النفسية المشخّصة مثل القلق والاكتئاب واضطرابات الأكل. لفهم هذه الحالات بشكل حقيقي، من الضروري فهم التغيرات الميكروبية المحددة المعنية وتأثيرها المباشر على تنظيم المشاعر، والقدرة على الصمود الذهني (المرونة المعرفية)، واستجابات الدماغ للتوتر.

على سبيل المثال، في حالات اضطرابات المزاج المشخّصة، يلاحظ الباحثون باستمرار انخفاض تنوع الميكروبات مع نمو مفرط لأنواع مسببة للالتهاب. ترتبط هذه التغيرات بزيادة نفاذية الأمعاء وحدوث التهاب مزمن منخفض الدرجة – وهي عوامل تعيق قدرة الدماغ على تنظيم المزاج والتركيز. فعلى سبيل المثال، غالباً ما يُلاحظ انخفاض أعداد بعض الميكروبات المنتجة للأحماض الدهنية قصيرة السلسلة (short-chain fatty acid) لدى الأشخاص المصابين بالاكتئاب. تساعد هذه الميكروبات المفيدة في تقليل الالتهاب ودعم الحاجز بين الأمعاء ومجرى الدم. وعندما تكون مفقودة، يصبح الجسم أكثر عرضة لاضطرابات المناعة التي يمكن أن تؤثر على الدماغ.

يؤثر الميكروبيوم أيضًا على كيفية تعامل الدماغ مع النواقل العصبية. تنتج بكتيريا الأمعاء أو تعدّل مستويات السيروتونين والدوبامين وحمض الغاما-أمينوبيوتيريك GABA – وهي مركبات كيميائية رئيسية مرتبطة بالتوازن العاطفي والتحفيز والشعور بالهدوء. إذا سيطرت الميكروبات الخاطئة، يتغير إنتاج وتنظيم هذه المركبات، ما يؤدي إلى ظهور أعراض تتطابق مع حالات نفسية كلاسيكية. وقد تم إثبات ذلك في دراسات بشرية ونماذج حيوانية، حيث تؤدي التغيرات في الميكروبيوم إلى اختلافات ملموسة في سلوكيات القلق أو الاكتئاب.

وتُعد اضطرابات الأكل مثالًا قويًا بشكل خاص على تفاعل الميكروبيوم مع السلوك. إذ تؤدي دورات الجوع الشديد والنهم إلى تغيير بيئة الأمعاء بشكل جذري، ثم تعزز التغيرات الميكروبية الناتجة تلك السلوكيات. تبدأ بعض الأنواع في إرسال إشارات إلى الدماغ إما لكبح أو تضخيم إشارات الشهية، مما يزيد من حدة هذه السلوكيات المتطرفة.

يُنظر الآن إلى الصحة النفسية بشكل متزايد باعتبارها شارعًا ذا اتجاهين بين الدماغ والأمعاء. يمكن أن تلعب المعالجة النفسية والأدوية دورًا مهمًا، ولكن من دون معالجة البيئة الميكروبية، تظل العديد من هذه الحالات صعبة العلاج.

وفي الومضة الأخيرة، سترى كيف أن الشيخوخة الدماغية على المدى الطويل والأمراض التنكسية العصبية (neurodegenerative disease) ترتبط أيضًا بصحة الميكروبيوم.

الومضة السادسة – شيخوخة الدماغ تبدأ في الأمعاء

قبل أن يصبح فقدان الذاكرة أمرا واضحًا أو تظهر مشاكل في الحركة (العصبية، أوالعضلية، أوالهضمية)، تحدث بالفعل تغييرات طفيفة في الدماغ. هذه التحولات المبكرة في الوظائف تعود بشكل متزايد إلى الأمعاء. العملية المعروفة باسم الالتهاب العصبي المرتبط بالشيخوخة (neuroinflammaging) – وهو الالتهاب المزمن منخفض الدرجة الذي يسرع من شيخوخة الدماغ – غالبًا ما تبدأ باضطرابات في الميكروبيوم.

مع فقدان ميكروبيوم الأمعاء للتنوع مع التقدم في العمر، يتغير توازن الإشارات المناعية. تتراجع البكتيريا الواقية، بينما تبدأ البكتيريا الأخرى التي تعزز الالتهاب في السيطرة. هذا التحول يضعف حاجز الأمعاء، مما يسمح للأجزاء الميكروبية بالمرور إلى مجرى الدم. يتفاعل الجهاز المناعي، وينشط مسارات الالتهاب التي تصل إلى الدماغ وتطلق جزيئات تتلف الخلايا العصبية بمرور الوقت. أحد التأثيرات الرئيسية هو الإفراط في تنشيط الخلايا الدبقية الصغيرة (microglia)، وهي خلايا المناعة المقيمة في الدماغ. عندما تظل هذه الخلايا في حالة استنفار دائم، تبدأ بمهاجمة الأنسجة السليمة وتتداخل مع عمليات إصلاح الدماغ الطبيعية.

لقد تم ربط إشارات ميكروبية محددة أيضًا بتراكم البروتينات غير الطبيعية في الدماغ. الأميلويدات البكتيرية (Bacterial amyloids) – وهي جزيئات تنتجها ميكروبات الأمعاء (gut microbes) – تشترك في خصائص بنيوية مع لويحات الأميلويد (amyloid plaques) التي تظهر في أمراض مثل الزهايمر. قد تتفاعل هذه البروتينات بشكل متبادل مع أنسجة الدماغ أو تربك آليات التنظيف في الجسم، مما يسرّع من تدهور الأعصاب (مرض التنكس العصبي). وقد وجد الباحثون أنه حتى في المراحل المبكرة من التدهور المعرفي (cognitive decline)، غالبًا ما تظهر لدى الأشخاص علامات عدم توازن ميكروبي وزيادة في نفاذية الأمعاء.

إن عوامل نمط الحياة التي تدعم تنوع الميكروبيوم – مثل الأنظمة الغذائية الغنية بالألياف، والأطعمة الغنية بالبوليفينول (polyphenol) كالقهوة، والشوكولاتة الداكنة، والزيتون، والتوت، والصيام المتقطع – تظهر أيضًا تأثيرات وقائية ضد شيخوخة الدماغ. فهذه العادات تعزز نمو البكتيريا التي تنتج الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة، وهي مركبات تساعد في تقليل الالتهاب وحماية الوظائف العصبية. أصبح دعم صحة الأمعاء جزءًا أساسيًا من فهم كيفية تقدم عمر الدماغ وما يمكن فعله لحمايته.

إن الصلة بين ميكروبات الأمعاء والصحة النفسية أعمق مما كان متوقعًا في السابق. فمن الرغبات الشديدة للطعام إلى الإدراك وحتى الأمراض المزمنة، يلعب الميكروبيوم دورًا أساسيًا في تشكيل كل ذلك. ومن خلال دعم هذا النظام البيئي الخفي، نكسب وسيلة فعّالة للتأثير على شعور الدماغ، ووظائفه، وشيخوخته طوال الحياة.

خلاصة نهائية

الرسالة الرئيسية من هذا الومضات لهذا الكتاب هي أن ميكروبيوم أمعائك يلعب دورًا محوريًا في تشكيل صحتك النفسية والعصبية.

الميكروبات الموجودة في جهازك الهضمي تؤثر على ما هو أكثر بكثير من مجرد عملية الهضم – فهي تؤثر على شعورك، وصفاء ذهنك، وما تشتهيه وترغب في تناوله، وكيف يتقدم دماغك في العمر. تساعد هذه الإشارات الميكروبية في تنظيم الشهية، وتوجيه الحالة المزاجية، والمساهمة في الإدمان، بل وتلعب دورًا في الاكتئاب، والقلق، والتدهور المعرفي. إن الاضطرابات في النظام البيئي المعوي يمكن أن تؤدي إلى التهابات وتغيرات في كيمياء الدماغ والتي تؤثر على الأداء اليومي والرفاهية والصحة على المدى الطويل. من خلال فهم تأثير الميكروبيوم على دماغك، تكتسب أدوات جديدة لتحسين الصفاء الذهني، والتوازن العاطفي، والمرونة النفسية. ولا تزال الأبحاث في هذا المجال تتطور، لكن الرسالة واضحة: إذا كنت تريد أن تفكر بشكل أفضل، وتشعر بشكل أفضل، وتشيخ بشكل أفضل، فالأمعاء هي نقطة الانطلاق الصحيحة.

نبذة مختصرة عن المؤلف

الدكتور ستيفن جاندري (Dr. Steven Gundry) هو جراح قلب بارز، وباحث طبي، ورائد في مجال التغذية الصحية. تخرّج من جامعة ييل (Yale University) بمرتبة الشرف في علم تطور الإنسان، ثم أتم دراسته الطبية بتفوق في كلية الطب بولاية جورجيا (Medical College of Georgia). على مدار مسيرته الجراحية المرموقة، اخترع أجهزة ما زالت تُستخدم عالميًا في عمليات القلب المفتوح، وشغل منصب رئيس جراحة القلب والصدر في جامعة لوما ليندا (Loma Linda University)، حيث كان له دور كبير في تطوير زراعة القلوب للرضّع، وتقنيات جراحية دقيقة ذات تدخل جراحي محدود.

تحول اهتمام الدكتور جاندري إلى الطب الوقائي بعدما التقى بمريض استطاع عكس مسار مرض قلبه عبر تحسين نظامه الغذائي. دفعه ذلك لتأسيس “المعهد الدولي للقلب والرئة” (International Heart and Lung Institute) في ولاية كاليفورنيا، حيث كرس وقته لمساعدة المرضى في علاج الأمراض المزمنة من خلال الحمية والتغذية الصحية والمكملات.

الدكتور جاندري مؤلف لعدة كتب حققت أعلى المبيعات، من أبرزها: “مفارقة النبات” (The Plant Paradox)، و”مفارقة طول العمر” (The Longevity Paradox)، والتي يروّج فيها لنظام غذائي خالٍ من الليكتين (lectin-free) بهدف تحسين الصحة، ورفع كفاءة الميكروبيوم (microbiome)، وإطالة العمر. عبر كتبه، وسلسلة مكملاته الغذائية “Gundry MD”، وقناته على يوتيوب، والبودكاست الخاص به، يشارك نصائح طبية عملية، ويعرض أحدث الأبحاث الطبية بأسلوب مبسط لجمهور عالمي واسع.

Previous post من الألم إلى الإنجاز: دليلك لصناعة خطة عمل قوية ونجاح مستدام
Next post حين تصبح الأخلاق ضرورة في زمن الذكاء الاصطناعي

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *