دروس لا يغيّرها الزمن: عن المخاطر والفرص والحياة الطيبة

ومضات معرفية من كتاب “كما هو الحال دائمًا: دروس خالدة حول المخاطر، والفرص، وعيش حياة طيبة”

 

ترجمة وبتصرف: عبدالله سلمان العوامي

تاريخ نشر الترجمة: ٢٧ ابريل ٢٠٢٥م

تاريخ اصدار الكتاب بغلاف ورقي: 7 نوفمبر 2023

مؤلف الكتاب: السيد مورغان هاوسل Morgan Housel، نبذة مختصرة عن سيرته الذاتية تجدها في الصفحة الأخيرة.

المصدر: منصة الوميض التجارية Blinkist لتلخيص الكتب.

اسم الكتاب باللغة العربية والإنجليزية:

كما هو الحال دائمًا: دروس خالدة حول المخاطر، والفرص، وعيش حياة طيبة

Same as Ever: Timeless Lessons on Risk, Opportunity and Living a Good Life 

تنصل:

هذه الترجمة لا تعكس بالضرورة تأييدًا أو رفضًا للمحتوى الأصلي، وإنما الهدف منها هو نشر المعرفة وعرض وجهات نظر متنوعة. قد تحتوي المادة المترجمة على معلومات لا تتوافق بالضرورة مع بعض المعتقدات أو التوجهات الشخصية، إلا أنها محاولة جادة لنقل الفكرة الأساسية مع الحفاظ قدر الإمكان على السياق العام، وإن لم تكن الترجمة دقيقة تمامًا.

نسعى من خلال هذه الترجمات إلى توسيع آفاق التفكير وتعزيز التواصل الثقافي والفكري، عن طريق تقديم أبحاث ورؤى في مجالات متعددة مثل الصحة، والتقنية، والاقتصاد وغيرها، مما يُتيح للقارئ العربي الاطلاع على مختلف وجهات النظر بلغته الأم، وتعزيز التفاهم بين الثقافات الى جانب تشجيع النقاش الموضوعي للاستفادة منها أو نقدها بشكل واعٍ وبنّاء.

تعريف مختصر بالكتاب من شركة أمازون Amazon:

من المؤلف السيد مورغان هاوسل Morgan Housel، المؤلف الأكثر مبيعًا لكتاب “سيكولوجية المال”، (The Psychology of Money)، تأتيك قصص عن الأشياء التي اعتاد الناس أن يفعلوها دائمًا، وسيستمرون في فعلها.

الجميع يرغب في رؤية المستقبل، لكن القليل فقط يجيد ذلك. بدأ من عالم الأعمال إلى الاقتصاد، ومن السياسة إلى الاتجاهات الاجتماعية، لسنا بارعين حقًا في التنبؤ بما سيحدث لاحقًا.

ووفقًا للمؤلف السيد مورغان هاوسل، فإن السبب في ذلك هو أننا نركّز كثيرًا على ما نعتقد أنه سيتغير، ولا نولي الاهتمام الكافي لما نعرف أنه سيبقى على حاله.

لو سافرت عبر الزمن إلى 500 عام مضت أو إلى 500 عام في المستقبل، فستندهش من مدى التغيّرات في التكنولوجيا والطب. وقد يبدو النظام الجيوسياسي غير منطقي بالنسبة لك، وربما تكون اللغة واللهجة غريبتين تمامًا. لكنك ستلاحظ أن الناس لا يزالون يقعون فريسة للجشع والخوف، تمامًا كما يفعلون في عالمنا الحالي.

سترى الناس يتأثرون بالمخاطر، والغيرة، والانتماءات القبلية بطرق مألوفة لك. ستلاحظ ثقة زائدة بالنفس وقصر بالنظر تذكّرك تمامًا بسلوك الناس هذه الأيام. وستجد من يبحث عن سر الحياة السعيدة ويحاول إيجاد اليقين في عالم يخلو منه، بطرق تجعلك تشعر بمدى الترابط والتشابه الإنساني عبر الزمن.

وعندما تنتقل إلى عالم غير مألوف، ستقضي بضع دقائق تراقب تصرفات الناس ثم تقول: “آه، لقد رأيت هذا من قبل. كما هو الحالدائمًا.”

إن التاريخ مليء بالمفاجآت التي لم يكن لأحد أن يتنبأ بها. ولكن إذا تعلمنا أن نرى ما لا يتغير، يمكننا أن نكون أكثر ثقة في قراراتنا، مهما كان ما يحمله المستقبل.

المحتوى التالي هو ترجمة للنص الإنجليزي في منصة الوميض Blinkist. وهو مكون من مقدمة وخلاصة نهائية بالإضافة الى ٧ ومضات معرفية. وتعتبر كل ومضة تلخيصا لفصل كامل من الكتاب:

المقدمة – حكمة خالدة لمواجهة تغيّرات الحياة الكبرى.

كتاب السيد مورغان هاوسل، ” كما هو الحال دائمًا”: دليل لما لا يتغيّر أبدًا. من الاضطرابات التي خلّفها الوباء العالمي إلى تبدّل القيم الاجتماعية، يبدو أن عالم اليوم في تغيّر دائم. والحقيقة أن هذا الكم من التغير يمكن أن يكون مخيفًا للغاية. لكن في مواجهة هذا القلق، كثيرًا ما ننسى أن وسط الفوضى، هناك أشياء تبقى على حالها كما هي دائمًا. هذا الدليل العميق يقدّم رؤى حول ما يبقى ثابتًا، حتى في قلب عالم مليء بعدم اليقين.

يستند هذا الكتاب إلى التاريخ، وعلم النفس، والنظريات المالية، وغيرها من المجالات، ليكشف عن حقائق إنسانية كونية تتعلق بالسلوك البشري. من كيفية استجابة الناس للفقاعات المالية والانهيارات الاقتصادية، إلى ما يصنع السعادة الحقيقية، فإن هذه الدروس القصيرة لا تزال ذات صلة بأيامنا الحالية تمامًا كما كانت قبل ألف عام. وذلك لأن التقنيات والسياسات قد تتغير، لكن السلوك البشري يبقى ثابتًا بشكل مدهش. وفهم هذا السلوك يمنحك القدرة على اتخاذ قرارات أفضل، سواء في العمل أو في المنزل أو في الحياة الشخصية.

الومضة الأولى – القدر هش

القدر هش، او المصير قابل للكسر وسريع العطب. كلها مرادفات لمعنى واحد فقط. والسؤال: هل تساءلت يومًا عن هشاشة التاريخ، أو كم من أحداث التاريخ كانت على حافة السكين؟ كيف أن هبة ريح، أو قرار صغير، أو لقاء عشوائي ربما غيّر مجرى الأمور تمامًا؟ عندما تنظر إلى التاريخ عن كثب، ستجد كمًا مذهلًا من الأدلة على أن مصير العالم كثيرًا ما كان معلّقًا بخيط رفيع. فلنأخذ على سبيل المثال معركة لونغ آيلاند Battle of Long Island. وتسمى حالية مدينة بروكلين في ولاية نيويورك الامريكية.

في أغسطس عام 1776، تعرّض جيش الرئيس الأمريكي السيد جورج واشنطن George Washington الى إنتكاسة كبيرة أمام البريطانيين. كانت قوات الرئيس واشنطن أقل عددًا وأضعف تسليحًا في مواجهة الأسطول البريطاني البحري الضخم، واضطُروا إلى التراجع. ولو كان البريطانيون قادرين على الإبحار صعودا في النهر الشرقي East River، لكان بمقدورهم محاصرة جيش الرئيس واشنطن بالكامل دون منفذ للهرب. لكن في ذلك اليوم، لم تكن الرياح في صالحهم. كانت تهب في الاتجاه المعاكس، مما منح جيش الرئيس واشنطن وقتًا لإعادة تجميع صفوفه. وقد تمكّنت قوات الرئيس واشنطن من النجاة ومواصلة القتال في يوم آخر، ليكسبوا في النهاية معركة الاستقلال.

كانت مجرد مصادفة جوية في لحظة حاسمة هي التي غيّرت مجرى معركة أمريكا من أجل الحرية. من المذهل التفكير في كم من نتائج التاريخ اعتمدت أساسًا على الحظ البحت. وحتى في تاريخك الشخصي، قد تكون لاحظت ذاك التيار الغريب، المضحك أحيانًا، والمأساوي أحيانًا أخرى، من العشوائية الذي ينسج نفسه في تفاصيل الحياة. وقد تعلّم المؤلف السيد مورغان هاوسل هذا الدرس من خلال تجربة شخصية مؤلمة. ففي عام 2001، كان السيد هاوسل مراهقًا يتنافس في رياضة التزلج، وكان هو وصديقان مقرّبان، السيد بريندان Brendan والسيد برايان Brian، يتزلجون بانتظام في أماكن وتضاريس خطرة وخارج نطاق المسارات المخصصة والمسموح بها.

وفي صباح مثلج، نجا الثلاثة بأعجوبة من انهيار جليدي صغير. وفي وقت لاحق من ذلك العصر، عاد السيد بريندان والسيد برايان مجددًا للتزلج، بينما قرر السيد هاوسل، بدافع عابر، ألا يتزلج معهما. وفي ختام القصة لم يرجع السيد بريندان والسيد برايان أبدًا. وكشفت عملية بحث موسّعة أنهما قُتلا في انهيار جليدي ضخم. وحتى يومنا هذا، تطارد السيد هاوسل فكرة بأن قراره بعدم الذهاب في تلك الجولة المشؤومة كان محض صدفة.

لقد كان لديه ما نسميه غالبًا “حظ الأغبياء”. كم مرة حالفك هذا النوع من الحظ في حياتك؟ في كل خطوة نخطوها، قد تنبثق منها أحداث تغيّر حياتنا بالكامل من أشياء صغيرة وغير متوقعة لا يفكر فيها أحد. فالتغير الجذري قد ينشأ من حوادث غامضة أو سهو بسيط. ولهذا السبب فإن التنبؤ بالمستقبل أمر بالغ الصعوبة. وعندما يتعلق الأمر بما هو قادم، فإن من الأفضل: أن تتوقع ما لا يُتوقع.

لكن هناك جانبًا مضيئًا في ذلك. فبينما من المستحيل التنبؤ بالأحداث الدقيقة، يظل التنبؤ بالسلوك البشري أمرًا موثوقًا به. فبغض النظر عن التغييرات الخارجية، يميل الناس إلى الاستجابة للاضطراب والخوف وعدم اليقين بطرق يمكن التنبؤ بها. وبمجرد أن تتعلّم هذه الأنماط، يمكنك اتخاذ قراراتك بثقة بالاعتماد على هذه الثوابت النفسية الخالدة.

الومضة الثانية – أكبر مخاطرة هي تجاهل المخاطر

أكبر مخاطرة هي تجاهل المخاطر. هل تقوم بتحليل المخاطر قبل اتخاذ قرارات كبيرة؟ كثير منا يفعل ذلك، ومع ذلك غالبًا ما نفوّت أعظم الأخطار لأنها ببساطة لا يمكن التنبؤ بها. نشأت العديد من أكبر الأحداث في التاريخ، من الكوارث الطبيعية إلى الحروب، من تهديدات لم يتخيلها أحد.

لنتأمل مثالًا مروعًا عن تجربة طيران فاشلة لوكالة ناسا. في عام 1961، أتمّ المتدرب الفضائي السيد فيكتور براذر (Victor Prather)اختبارًا ناجحًا لبذلة فضاء على ارتفاع 22 ميلًا باستخدام منطاد هوائي. كانت الرحلة ناجحة. هبط السيد براذر بسلام على سطح المحيط وفتح واجهة خوذته ليستنشق بعض الهواء النقي. لكن أثناء محاولة مروحية الإنقاذ (طائرة هيلوكوبتر) انتشاله، انزلق وسقط في الماء. امتلأت خوذته المفتوحة مباشرة بمياه البحر، ما أدى بسرعة إلى غمر البذلة بالكامل.

تُجسّد القصة غرق السيد براذر: كيف أن أكثر المخاطر ضررًا ليست غالبًا تلك التي نستعد لها، بل تلك الثغرات الغامضة التي لا نلتفت إليها. وكما قال المستشار المالي السيد كارل ريتشاردز Carl Richards ذات مرة: “الخطر هو ما يتبقى بعد أن تظن أنك فكرت في كل شيء.” وكما تعلمنا في الومضة السابقة، فإن العالم معقد ويصعب التنبؤ به. ومهما بلغنا من حرص، فإن التهديدات تنفذ من بين الشقوق. ولهذا السبب، فإن التركيز الضيق على التنبؤ غالبًا ما يُخفق في حمايتنا.

فالمحن الكبرى تنشأ من أمور لا تكون في حسبان أحد. إن المرونة والاستعداد الشامل هما استراتيجيتان أكثر فاعلية للتعامل مع تعقيدات عالمنا. وهذا الدرس ينطبق على مختلف السياقات، من الصحة الشخصية إلى استراتيجيات الأعمال والجغرافيا السياسية.

الومضة الثالثة – انخفاض التوقعات هو مفتاح السعادة

هل شعرت يومًا بأنه مهما تحسنت حياتك، لا يبدو أنك تشعر بالرضا؟ أنت لست وحدك. فالحقيقة أن السعادة لا ترتبط كثيرًا بظروفنا الفعلية، بل تتعلق بشكل أكبر بتوقعاتنا.

المشكلة هي أن الحياة تميل إلى التحسن بمرور الوقت لدى معظم الناس، وترتفع التوقعات جنبًا إلى جنب معها. فالمعايير التي تحدد ما يُعد “حياة طيبة” تستمر في الابتعاد شيئًا فشيئًا. لذا، وبينما تتحسن ظروفنا المادية من عقد إلى آخر، فإن التوقعات تتضخم بوتيرة أسرع، مما يجعل مستويات السعادة تبقى إلى حد كبير على حالها. يسمّي الخبراء هذا بـ جهاز المشي اللذّي (hedonic treadmill). وهذا موجود منذ زمن بعيد، لكنه تسارع في العصر الحديث. أحد العوامل هو وسائل التواصل الاجتماعي، التي تغمرنا بلقطات منتقاة بعناية لأبرز الأحداث من حياة الآخرين، مما يُشعل الغيرة ويثير الحسد ومشاعر النقص.

هناك عامل آخر يتمثل في تزايد عدم المساواة، مما يؤدي إلى تدرج النمو بحيث أنه حتى مع تحسن أوضاعنا الخاصة، يمكن للثروات الفلكية التي يحققها الآخرون أن تجعلنا نشعر وكأننا لا نحقق أي تقدم. فما هو الحل؟ كما يقول أسطورة الاستثمار السيد تشارلز مونجرCharles Munger، الذي عاش حتى سن التاسعة والتسعين، فإن القاعدة الأولى لحياة سعيدة هي خفض التوقعات بوعي. المفتاح هو إدارة توقعاتك، مع الاعتراف بأنها تلعب دورًا مساويًا، إن لم يكن أكبر من، الظروف المادية في تحديد السعادة. هذا أسهل قولًا من فعل، ولكن إليك ثلاث طرق للتحكم في التوقعات:

  • أولًا، قارن نفسك بالآخرين بوتيرة أقل.
  • ثانيًا، ركز أكثر على الاستمتاع بما لديك بدلًا من التذمر مما ينقصك.
  • وثالثًا، تذكّر بأن الثروة والشهرة غالبًا ما تفشلان في تلبية التوقعات.

وعندما تكون نظرتك واقعية، يصبح تحقيق الرضا في داخلك أسهل بكثير.

الومضة الرابعة – اليقين يقتل الدقة

ما الذي يسبب لك توترًا أكبر؟ أن تعرف بأن لديك اجتماعًا مزعجًا قادمًا، أم ألا تكون متأكدًا مما إذا كان هناك اجتماع أصلًا؟ إذا اخترت الاحتمال الثاني، فأنت لست وحدك. البشر يتوقون إلى اليقين، ومع ذلك فإن رغبتنا في القضاء على الشك كثيرًا ما تضللنا.

المشكلة أن الحياة مليئة بالاحتمالات، لا بالضمانات. من الناحية النظرية، نحن ندرك ذلك. لكن في الحياة الواقعية، غالبًا ما يتم تجاهل الاحتمالية والتفاصيل الدقيقة. فالتنبؤات الدقيقة التي تعترف بالغموض قد لا ترضينا، في حين أن الادعاءات القاطعة، حتى وإن كانت غير دقيقة، تمنحنا شعورًا بالراحة. ولهذا السبب، كما تُظهر أبحاث عالم النفس السيد فيليب تيتلوك Philip Tetlock، فإن الخبراء الذين يقدمون تنبؤات جريئة ومبهمة بثقة زائدة يحظون بشعبية أكثر من أولئك المتنبئين المتواضعين، حتى لو كانوا أكثر موثوقية.

كما أننا نفشل في فهم احتمالية أحداث الحياة الواقعية، فإما نراها مستحيلة أو حتمية. نصاب بالذهول عندما يقع حدث منخفض الاحتمال، مثل كارثة طبيعية. وعندما لا يحدث شيء كان يُفترض أن يحدث بنسبة عالية، نشعر بأن هناك خللًا. الحقيقة المزعجة هي أن الدقة واليقين غالبًا ما يتعارضان. فالنسب الاحتمالية تهدف إلى التعبير عن الإمكانية، وليس التنبؤ بالتفاصيل. وحدثٌ واحد يخالف توقعاتنا لا يعني أن الاحتمالات كانت خاطئة.

على سبيل المثال، لمجرد أنك تعرضت لحادث سيارة مروع واحد، لا يعني أنك سائق سيئ. ولكن بالطبع، إذا تعرضت لخمسة حوادث هذا العام، فربما هناك ما يدعو للقلق. ولكي نحصل على صورة دقيقة للعالم، علينا مقارنة النتائج عبر فترة زمنية طويلة. لذا، عندماتبحث عن تنبؤات، احذر من التطرف. فالتنبؤ المدروس الذي يقدم نسبة ثقة تبلغ 80% غالبًا ما يكون أكثر دقة من التنبؤ الذي يدعي يقينًا بنسبة 100%. قبول عدم اليقين يتطلب حكمة، لكن إدراكنا لتحيزنا نحو اليقين على حساب الدقة هو الخطوة الأولى.

الومضة الخامسة – القصص تتفوق على الإحصاءات

لماذا يتم تبني بعض التقنيات الجديدة بسرعة هائلة بينما تتلاشى أخرى؟ لماذا تتشكل فقاعات الإسكان العقارية رغم أن الأساسيات الاقتصادية لا تدعم ارتفاع الأسعار؟ سواء في التاريخ أو السياسة أو الاقتصاد، تحدث أشياء لا تبدو منطقية طوال الوقت. فبالرغم من رغبتنا في أن يسير العالم وفق منطق واضح، هناك قوى عاطفية وغير قابلة للقياس غالبًا ما تكون هي المحرّك الحقيقي للنتائج.

خذ على سبيل المثال حرب فيتنام. السيد روبرت مكنامارا Robert McNamara، الذي كان وزير الدفاع آنذاك، كان يطلب تقارير إحصائية يومية عن تقدم الحرب. وكانت الأرقام التي يحصل عليها — عن الأراضي التي تم الاستيلاء عليها، وعدد القتلى من العدو، والموارد المستخدمة — توحي بالرضا. لكن على أرض الواقع، كانت الولايات المتحدة تواصل المعاناة. وكما أشار أحد الجنرالات، فإن وزير الدفاع السيد مكنامارا كان يملك كل الأرقام، لكنه كان يفتقد لمشاعر الشعب الفيتنامي. فالمنطق كان يقول إن الولايات المتحدة تنتصر.

لكن العنصر البشري كان له رأي مختلف. مثل هذا اللاعقلانية تشكّل أيضًا عالم الاستثمار. في عام 2008، كانت شركة جيم ستوب للألعاب GameStop وشركة ليمان براذرز الاستثمارية Lehman Brothers تمتلكان بيانات مالية متشابهة قبل أن تتباعد مصائرهما بشكل دراماتيكي. أصبحت شركة جيم ستوب GameStop هوسًا لبعض مستخدمي منصة ريد ايديت Reddit، ما أدى إلى ارتفاع أسهمها بشكل هائل. أما شركة ليمان براذرز Lehman Brothers، فقد فقدت ثقة المستثمرين، مما أدى إلى إفلاسها. فما الفرق؟

القصص التي رواها الناس لأنفسهم. الإحصاءات وحدها لا تستطيع قياس المشاعر والقوى الاجتماعية التي تصنع واقعنا العبثي. كما أنها لا تأخذ في الحسبان حبنا البشري للقصص الجيدة. ولهذا السبب يمكن للحكايات المؤثرة أن تتفوق على كميات هائلة من البيانات. وهكذا يمكن لرواة القصص البارعين أن يغيروا مجرى التاريخ. فقط تأمل الخطاب الشهير للسيد مارتن لوثر كينغ جونيور Martin Luther King Jr.، والذي كان بعنوان: “لديّ حلم”.

بالطبع، ليست كل القصص المؤثرة تُستخدم دائمًا لصالح البشرية. إذ يمكن استغلالها لتغذية رغبتنا في سماع ما نتمنى أن يكون صحيحًا بدلًا من مواجهة الحقائق غير المريحة. لكن هذا يعزز الفكرة نفسها: القصص يمكن أن تؤثر على الناس من خلال العاطفة بطرق نادرة ما تستطيع الإحصاءات فعلها. لذا، في المرة القادمة التي يحدث فيها شيء يبدو غير منطقي، لا تشعر بالإحباط. تقبّل أن جداول البيانات لا تُدير العالم.

وإذا كنت بحاجة لإقناع شخص ما، فلا تكتفِ بعرض البيانات فقط. احكِ له قصة جيدة بدلًا من ذلك. ففي عالم الأعمال، أو الاستثمار، أو حتى في الحياة، القصة الأفضل غالبًا هي التي تنتصر.

الومضة السادسة – السلحفاة والأرنب

هل تتذكر الحكاية القديمة عن السلحفاة والأرنب؟ في هذه القصة، تنتصر السلحفاة البطيئة في النهاية على الأرنب السريع، حتى لو بدا الأمر مثيرًا للشفقة بعض الشيء. يتجلى هذا النمط ويتكرر في كل جوانب الحياة. بناء منزل يتطلب عناية كبيرة، لكن هدمه لا يستغرق سوى دقائق.

وبالمثل، يستغرق الجسم البشري سنوات ليكتمل نموه، بينما قد تحدث الوفاة بسبب انقطاع بسيط في الأكسجين. هناك نمط واضح هنا. التقدم يحدث ببطء شديد، لدرجة يصعب ملاحظته من يوم إلى آخر أو حتى من عام لآخر. في المقابل، الفشل يأتي سريعًا ويجذب انتباهنا فورًا. هذا التفاوت في السرعة يؤثر بشكل عميق على نظرتنا إلى العالم. خذ على سبيل المثال الإنجازات الطبية خلال العقود الأخيرة مقارنة بالآثار المدمرة لـ جائحة كوفيد-19، أو الارتفاع التدريجي للدخل خلال القرن العشرين مقابل الاضطراب المفاجئ في فترة الكساد الكبير.

أحدهما يتراكم بهدوء، والآخر يُحدث دمارًا فوريًا. في معظم الأحيان، تفوق فوائد التقدم سلبيات الفشل. لكن عقولنا تميل للتركيز على الفشل بينما تأخذ التقدم كأمر مُسلّم به. كما أننا نقلل من شأن قوة التقدم البطيء لأننا لا نستوعب فكرة النمو الأُسِّي. ويظهر هذا في نفاد صبرنا عندما يتعلق الأمر بالاستثمار، حيث نسأل عادة: ما هي الأسهم الأكثر حظوة وسخونة هذا العام؟

بينما السؤال الأهم هو: ما الذي يمكنني الالتزام به لعقود؟ لكن تذكّر أن السلحفاة تفوز في السباق في النهاية، حتى لو استحوذ الأرنب على عناوين الأخبار اليومية وتصدرها. تراكم التقدم الطفيف على المدى الطويل أفضل بكثير من الاندفاع والفشل السريع.

 

الومضة السابعة – تجارب مختلفة

أحد أكثر الأسئلة المحبطة التي قد تطرحها على نفسك هو: لماذا، ولماذا يفكّر بعض الناس بطريقة مختلفة عني؟ حسنًا، السبب هو أنهم مرّوا بتجارب مختلفة. نحن كثيرًا ما نقلل من أثر الأحداث المحورية على نفسياتنا ونفسيات الآخرين. تنتهي الحروب، وتتعافى حالات الركود الاقتصادي، وتُزال الكوارث، لكن مواقف المتأثرين بها قد تتغير إلى الأبد.

فعلى سبيل المثال، قد يبقى الناجون من الكوارث الاقتصادية متشككين بشكل دائم من المخاطرة المالية. أما ضحايا النزاعات العسكرية، فهم غالبًا ما يسعون إلى الاستقرار أكثر من السعي وراء طموحات عالية. ومن الآثار الشائعة لتجربة الكوارث أن الشخص يبدأ بتوقّع حدوث كوارث مستقبلية، حتى من دون مبرر منطقي. الناجون يتنبأون بالأزمات المحتملة بثقة مفرطة، لمجرد أن الحدث الأصلي وقع على نحو غير متوقع. فهم يفضلون أن يكونوا متشائمين على أن يُفاجَؤوا مرة أخرى. وهذا مفهوم، أليس كذلك؟

ومع ذلك، فإن أولئك الذين نشأوا في فترات يسودها السلام قد يجدون صعوبة في فهم مدى تأثير مثل هذه التجارب في تشكيل النفوس. والخلاصة هي أن علينا إدراك أن الاختلاف في الرأي أمر طبيعي تمامًا. ففي أغلب الأحيان، لا يختلف الناس لأن أحد الطرفين غير عقلاني أو غبي، بل لأن أحدهما مرّ بتجارب لا يستطيع الآخر استيعابها. ونظرًا لأن علم الإنترنت يعرّضنا الآن لعدد غير مسبوق من وجهات النظر المختلفة، فعلينا أن نتأقلم مع هذا النوع من الاختلافات.

وأبسط طريقة لسد هذه الفجوة هي أن نسأل: ما الذي عشته يا فلان ولم أعيشه أنا، وجعلك تؤمن بما تؤمن به؟ هذا السؤال يعترف بالتجارب التي تشكّل طريقة تفكيرنا، ويفتح الباب لوضع أنفسنا مكان الآخرين. كان الاختلاف دائمًا جزءًا من تاريخنا، وسيبقى كذلك. وكما هو الحال دائمًا، فإن التعاطف هو الحل.

خلاصة نهائية

في هذه الومضات لكتاب “كما هو الحال دائمًا” (Same as Ever) للمؤلف السيد مورغان هاوسل، تعلّمت أن المستقبل غير مؤكد، لكن السلوك البشري ليس كذلك. قد يبدو عدم القدرة على التنبؤ بالحياة أمرًا مقلقًا، لكن التاريخ يُظهر أن السلوك البشري يستمر بثبات مدهش عبر العصور المضطربة. إن فهم الدوافع والأنماط النفسية المستمرة يساعدنا على رؤية أوضح في أوقات التغيير. فالتنبؤات بالمستقبل لا تعبّر عن يقين، بل عن احتمالات.

لكن في حياتنا اليومية، نميل إلى التضحية بالدقة في سبيل القضاء على الشك. كما ننسى أن الإحصاءات لا تحكي القصة كاملة. فالعديد من الأحداث التاريخية والسياسية والمالية الكبرى قد تعتمد على الصدفة المحضة أو المشاعر المتقلبة. وفي بعض الأحيان، تكون القصص التي نرويها لأنفسنا أقوى من الحقائق القابلة للقياس الكمي. وعندما نصالح أنفسنا مع فكرة أن اللايقين أمر لا مفر منه، يمكننا عندها التركيز على دراسة القواسم المشتركة في السلوك البشري بدلًا من اختراع تنبؤات دقيقة. المستقبل سيبقى لغزًا، لكن الناس يبقون كما هم.

نبذة مختصر عن المؤلف

السيد مورغان هاوسل Morgan Housel هو شريك في “صندوق التعاون The Collaborative Fund”، وهي شركة لرأس المال المغامر تدعم وتستثمر في الشركات التي تشكّل المستقبل من خلال الإبداع والمسؤولية. قبل ذلك، بنى سمعة قوية كصحفي في الشئون المالية والاقتصادية، حيث كتب على نطاق واسع لصالح منصة “ذا موتلي فول The Motley Fool” وصحيفة” وول ستريت جورنال Wall Street Journal”.

يُعرف السيد هاوسل على نطاق واسع بكتاباته العميقة وسهلة الفهم في مجالات المال والاقتصاد والسلوك البشري. وقد فاز مرتين بجائزة “الأفضل في مجال الأعمال Best in Business” من جمعية محرري وكتاب الأعمال الأميركيين Society of American Business Editors and Writers، وحصل على جائزة “سيدني Sidney Award” من صحيفة نيويورك تايمز New York Times، وكان مرتين من المتأهلين النهائيين لجائزة “جيرالد لوب Gerald Loeb Award” المرموقة للصحافة المالية والتجارية المتميزة.

يعيش السيد مورغان في مدينة سياتل Seattle في ولاية واشنطن Washington الأمريكية مع زوجته وطفليه، حيث يواصل الكتابة والتحدث عن التفكير طويل الأمد، والمخاطرة، واتخاذ القرارات في المال والحياة.

Previous post فك الشفرة الجينومية المعقدة لمرض فقر الدم المنجلي بين السكان السعوديين

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *