حين يأتي الندم بعد الرحيل: رسالة إلى روح سعيد الدرورة

حين يأتي الندم بعد الرحيل: رسالة إلى روح أبي أحمد

بقلم: عبدالله سلمان العوامي

٢ ابريل ٢٠٢٥

بعض الخسارات لا تُدرك فور وقوعها، بل تأتي كأمواج متأخرة، تصفع القلب في لحظة تأمل، أو عبر خبرٍ عابر يخترق وجدانك دون إذن. هكذا شعرتُ تمامًا حين بلغني نبأ رحيل أبي أحمد…

في يوم ٢٨ من شهر رمضان لعام ١٤٤٦هـ، تلقيت بحزنٍ بالغ خبر وفاة الزميل العزيز سعيد الدرورة (أبي أحمد) رحمه الله تعالى. كان الخبر مفاجئًا، فغمرني حزن عميق وألم كبير، وكأن الفقيد لم يكن مجرد زميل في العمل، بل شخصًا قريبًا مني قلبًا وعقلاً وروحًا. وقد تضاعف حزني وألمي بسبب وجودي خارج الوطن حينها، فجلستُ صامتًا، باكيًا، مثقلًا بالندم.

وللشهادة والتاريخ، كانت علاقتي بالمرحوم علاقة عمل فقط بحكم زمالتنا في بنك سامبا بمدينة الخبر يسودها الاحترام المتبادل، لكنها تعززت لاحقًا حين كنا نلتقي في ديوانية الأخ العزيز حسن علي الصفار بمدينة القطيف، وهي ديوانية لصديقٍ مشترك تُعقد مساء كل ثلاثاء. ورغم محدودية اللقاءات بسبب إقامتي في أمريكا، إلا أن شخصية المرحوم كانت استثنائية؛ يمنحك شعورًا بالراحة والطمأنينة والألفة من أول حديث، ويترك في النفس أثرًا لا يُمحى.

وبحكم عمله في قسم العمليات البنكية، فقد كان الفقيد يشغل موقعًا محوريًا، حيث يُعد همزة وصل بين العميل ومدير العلاقة، وهي وظيفة دقيقة تتطلب الصبر والحكمة والتوازن، نظرًا لما تحمله من ضغوط لتحقيق معادلة ليست سهلة: زيادة الإنتاجية، تقليل المخاطر، وضمان رضا العميل.

أتذكر جيدًا كيف كان يحضر بنفسه أحيانًا لمتابعة بعض المعاملات البنكية الحساسة التي تحتاج إلى مصادقات مختلفة، فيسعى بكل ما لديه من هدوء ولباقة وحرص على أن تمر العملية ضمن الأطر النظامية والقوانين المعمول بها، وبدون تأخير، حريصًا على إرضاء العميل وحماية لسمعة البنك في آنٍ معًا.

وعودًا إلى ديوانية الأخ العزيز الصفار، حيث كنا نلتقي به من حين لآخر، كان يجلس هادئًا، مبتسمًا، صامتًا في أغلب الوقت، وكأنه يتأمل ويتلقى الحكمة من أحاديث الحضور. وعندما يتحدث، يتكلم بهدوئه المعهود، بعيدًا عن الجدل والصوت المرتفع، متجنبًا الدخول في نقاشات عقيمة لا طائل منها، مكتفيًا أحيانًا بتلك الابتسامة الهادئة التي عُرف بها، والتي كانت تُغني عن كثير من الكلمات.

واليوم، إذ أتأمل في ملامح ذلك الرجل، أدرك متأخرًا جدًا كم كان كبيرًا في خُلُقه، وإنسانيته، وهدوئه الذي كان أبلغ من كثير من الكلمات. خسارتي كانت مزدوجة: أنني لم أقترب منه كما ينبغي، ولم أكتشف عمق شخصيته إلا بعد أن غاب.

إن خسارته ليست على المستوى الشخصي فقط، بل على مستوى المجتمع كله. فمعرفة رجل من طينته تُعد مكسبًا، وغيابه يُخلّف فراغًا لا يُسد بسهولة.

اقتباسات من بعض زملائه وأصدقائه:

وقد حدثني بعض الإخوة من ديوانية الأخ العزيز الصفار بعد رحيله عن جوانب في سيرته العطرة لم أكن أعلمها، ومنها مثلا وليس حصرا:

  • كان عصاميًا من الدرجة الأولى، شق طريقه بنفسه من أجل دعم أهله والوقوف إلى جانبهم.
  • تنقّل في مسيرته المهنية من بنك القاهرة إلى المتحد، ثم استقر في سامبا حتى تقاعده، حيث ترك بصمته في كل مكان عمل فيه.
  • كان من المحبين للحج بشغف، حتى أنك تكاد تجده حاضرًا في كل موسم، لا يتخلف عن أداء هذه الفريضة المباركة.
  • عاشقٌ للمآتم الحسينية، لا يكتفي بالحضور، بل كان يخدم في المضايف بنفسه كطباخ، إلى جانب دوره البارز في العلاقات العامة، حيث كان من المبادرين في حلّ المشكلات الطارئة، بابتسامته المعهودة وروحه الخدومة.
  • خدم في نادي النور بسنابس لدورة كاملة، وكان يرأس لجنة الإدارة المالية، وقدّم خلالها عطاءً مميزًا.
  • كانت الابتسامة لا تفارقه، حتى في أحلك الظروف، وقد شهد له الجميع بأنه كان يحمل همّه بصمت، ويخفي ألمه بابتسامة.
  • في محيط بيته، إذا حصل خلاف بين أولاده والجيران، كان يتعامل معهم بحزم الأب الحريص، لكنه سرعان ما يعود ليمازحهم، وتعلو الابتسامة جبينه من جديد.
  • وكان حقًا مثالاً للأخلاق العالية، والتواضع، والوجه البشوش، لا يعرف التكلّف، محبّ للناس، سهل المعشر، نقي السريرة، حسن النية والمقصد.
  • فقدنا برحيله رجلًا من النوع النادر، رجلًا يُذكَر فيُبتسم، ويُحكى عنه فتُستنشق من سيرته رائحة النُبل والصفاء.

موكب التشييع كان مختلفا:

أبو أحمد لم يكن صاحب مال وفير، ولا رجلًا ذا شهرة يلتف الناس حوله، ولم يكن يشغل منصبًا رفيعًا يفرض له المكانة أو النفوذ. بل كان رجلًا بسيطًا، متقاعدًا، لكن كبيرًا في عيون الناس بمحبة صادقة وبسيرة عطرة. امتلك ما لا يُشترى ولا يُكتسب بالمناصب: القلوب الصافية التي أحبّته، والدعوات الخفية التي كانت ترفعه، والتقدير العميق الذي زرعه بخدمته وطيب معشره. فقد كان حاضرًا دائمًا في مجتمعه، يخدم بابتسامة، ويتطوع بروح، ويشارك بحب، لا يطلب مقابلًا، ولا يبحث عن تصفيق، بل يفعل الخير لأن الخير كان طبيعته. وقد رسم موكب التشييع لوحة زاهية، تجلت معالمها في أبعاد متعددة:

  • لم يكن من الغريب أن يغصّ تشييعه بالحشود، رغم أن الوقت كان بعد الإفطار في شهر رمضان، حين يثقل الجسد وتُقلّل الحركة، لكن الناس تجاوزوا التعب، لأن القلوب هي التي سارت خلفه، لا الأقدام فقط.
  • كان محبوبًا بين أهله ومجتمعه، كما كان محبوبًا بين زملائه في العمل، الذين حضروا أيضًا وداعه والدموع في أعينهم والحزن في قلوبهم. باكون، منتحبون، غير مصدقين أن من اعتادوا رؤيته بابتسامته وهدوئه وحكمته قد غاب إلى الأبد.
  • مشهد وداعه لم يكن عاديًا، بل كان مرآة صادقة لمحبته، ومكانته في النفوس. فقد رحل رمز للهدوء، والتفاني، والإخلاص، وترك أثرًا خالدًا لا يُمحى من ذاكرة كل من عرفه.

وبعد معرفتي كل هذا، تراكمت الخسارة في قلبي أكثر، إذ لم أُوفَّق لمعرفة الفقيد معرفة عميقة خلال فترة الزمالة البنكية، ولم أقترب منه بما يكفي بعد التقاعد، رغم الفرص التي كانت متاحة. تلك الفرص التي بدت الآن كغيمةٍ عابرةٍ في سمائي، لم أنتبه إليها إلا بعد أن ابتعدت وتلاشت.

وزاد من ألمي أكثر أنني لم أُوفّق لحضور تشييعه، ولا حتى للمشاركة في عزائه. وبينما كانت المدينة كلها تودّعه، كنت أنا غارقًا في عجزٍ مؤلم، شعورٌ يشبه وقوفك على رصيف المحطة تشاهد قطارًا يحمل من تُحب مبتعدًا دون عودة. فكانت خسارتي مضاعفة: غياب معرفة، وغياب وداع.

وها أنا اليوم، لا أملك له سوى الدعاء، والكلمة الصادقة، والندم الصامت، على رجلٍ أدركت متأخرًا كم كان كبيرًا في خلقه، وإنسانيته، وأثره الجميل فيمن حوله.

رحمك الله يا أبا أحمد، وجعل مأواك الجنة. أعذرني إن لم أمنح نفسي فرصة معرفتك أكثر، ستبقى ذكراك في داخلي درسًا قاسيًا لكنه ثمين، يُعلّمني ألا أُؤجل الاقتراب من القلوب النبيلة أمثالك مرة أخرى.

Previous post «الإمام عليّ وقمّة القرب من الله: بين معرفة الخالق وطاعته»
Next post الإمام علي.. من مجالس الحزن إلى ميدان الحياة

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *