
ومضات معرفية من كتاب “كيف تفكر مثل الفيلسوف..، انهم العلماء والحالمون والحكماء الذين يمكنهم تعليمنا كيف نعيش”
ترجمة وبتصرف: عبدالله سلمان العوامي
تاريخ نشر الترجمة: ١٥ مايو ٢٠٢٥م
تاريخ اصدار الكتاب: ٨ مايو ٢٠٢٣م
مؤلف الكتاب: السيد بيتر كايف Peter Cave نبذة مختصرة عن سيرته الذاتية تجدها في الصفحة الأخيرة.
المصدر: منصة الوميض التجارية Blinkist لتلخيص الكتب.
اسم الكتاب باللغة العربية والإنجليزية:
كيف تفكر مثل الفيلسوف..، انهم العلماء والحالمون والحكماء الذين يمكنهم تعليمنا كيف نعيش
How to Think Like a Philosopher: Scholars, Dreamers and Sages Who Can Teach Us How to Live
تنصل:
هذه الترجمة لا تعكس بالضرورة تأييدًا أو رفضًا للمحتوى الأصلي، وإنما الهدف منها هو نشر المعرفة وعرض وجهات نظر متنوعة. قد تحتوي المادة المترجمة على معلومات لا تتوافق بالضرورة مع بعض المعتقدات أو التوجهات الشخصية، إلا أنها محاولة جادة لنقل الفكرة الأساسية مع الحفاظ قدر الإمكان على السياق العام، وإن لم تكن الترجمة دقيقة تمامًا.
نسعى من خلال هذه الترجمات إلى توسيع آفاق التفكير وتعزيز التواصل الثقافي والفكري، عن طريق تقديم أبحاث ورؤى في مجالات متعددة مثل الصحة، والتقنية، والاقتصاد وغيرها، مما يُتيح للقارئ العربي الاطلاع على مختلف وجهات النظر بلغته الأم، وتعزيز التفاهم بين الثقافات الى جانب تشجيع النقاش الموضوعي للاستفادة منها أو نقدها بشكل واعٍ وبنّاء.
تعريف مختصر بالكتاب من شركة أمازون Amazon:
يستمد هذا الكتاب، كيفية التفكير مثل الفيلسوف، من حياة وعمل المفكرين عبر التاريخ للكشف عن وجهات نظر فريدة حول الجمال والحقيقة وطبيعة الواقع. إنه يقدم الفلسفة على أنها بحث إنساني للغاية عن المعنى، ويشجع الجميع على فعل الشيء نفسه.
من خلال عرضه لكيف عاش كبار الفلاسفة في التاريخ الإنساني وكيف كانوا يفكرون – وما الذي كانوا يفكرون فيه – يقدم السيد بيتر كايف مدخلًا ممتعًا وسهل الفهم للتفكير الفلسفي وكيف يمكن أن يغير حياتنا اليومية. وبأسلوب سلس، يتناول أسئلة مهمة مثل: هل هناك شيء “خارجي” و “بعيدا هناك” يمنح لحياتنا معنى؟ هل تخبرنا الحقيقة كيف ينبغي لنا أن نعيش؟ ما هي الحقيقة أصلًا وما هو المظهر – وكيف يمكننا التمييز بينهما؟
يرسم هذا الكتاب لوحات حيّة لمجموعة متنوعة من المفكرين الملهمين: من لاو تزو Lao Tzu إلى ابن سينا Avicenna إلى إيريس مردوخ Iris Murdoch؛ من حنة أرندت Hannah Arendt إلى سقراط Socrates وأفلاطون Plato إلى كارل ماركس Karl Marx ؛ من كيركغارد Kierkegaard ونيتشه Nietzsche إلى سارتر Sartre إلى صامويل بيكيت Samuel Beckett – ولا ننسى لويس كارول Lewis Carroll بسبب تأملاته الخيالية المحفّزة للتفكير، ولودفيغ فيتجنشتاين Ludwig Wittgenstein من أجل معاناة العبقري.
يعرض هذا الكتاب، إلى جانب المتفائلين والمتشائمين، المؤمنين وغير المؤمنين، صلة وأهمية هذه الأفكار بالمسائل الراهنة، من حرية التعبير إلى الإجهاض، إلى معاملة الحيوانات، وإلى الطابع الأخلاقي للقادة.
في كل فصل قصير، يُحيي المؤلف السيد كايف هؤلاء المفكرين الفلاسفة ذوي البصيرة في كثير من الأحيان ودائمًا ما كانوا مثيرين للاهتمام، مبيّنًا كيف أن طرقهم في فهم العالم نشأت من تجارب حياتهم وعصورهم، وكيف يمكننا الاستفادة من رؤاهم في هذه الأيام. نحن بحاجة الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى أن نفهم كيف نعيش، وكيف نفهم العالم من حولنا. هذا الكتاب هو الدليل المثالي لذلك.
المحتوى التالي هو ترجمة للنص الإنجليزي في منصة الوميض Blinkist. وهو مكون من مقدمة وخلاصة نهائية بالإضافة الى ٤ ومضات معرفية. وتعتبر كل ومضة تلخيصا لفصل كامل من الكتاب:
المقدمة – اكتشف الشعراء والحكماء والمفكرين المستفزين الذين تعاملوا مع أكبر أسئلة الحياة.
في جوهرها، كانت الفلسفة دائمًا تدور حول الأسئلة الكبرى في الحياة. مثل: لماذا يوجد شيء بدلاً من لا شيء؟ أو: كيف يمكنني أن أعرف ما هو صحيح؟ وبينما تختلف حياتنا المعاصرة اختلافًا كبيرًا عن حياة سقراط في اليونان القديمة، على سبيل المثال، إلا أن الأسئلة التي يواجهها البشر حول الكون ومكانتنا فيه لم تتغير كثيرًا منذ آلاف السنين.
لكن هذا لا يعني أن الإجابات على تلك الأسئلة لم تتغير بشكل جذري عبر الزمن والثقافات. فالفلسفة لم تكن يومًا حكرًا على الكتب القديمة المغبرة – بل هي حوار دائم التطور وتحدٍّ أبدي لطبيعة الواقع. وليس كل من يمارس التفلسف يُطلق على نفسه لقب فيلسوف. فالشعراء، والرياضيون، والروائيون، والاقتصاديون، وعلماء النفس، والمؤرخون جميعهم انخرطوا في التفكير حول التفلسف والتفكير – واكتشفوا حقائق عميقة في هذه الرحلة.
من الصين القديمة إلى باريس ما بعد الحرب، أثّر فن التأمل في الحياة على الموسيقى والفن، وفرض أسئلة مؤلمة، وأشعل ثورات. والأهم من ذلك، أنه ألهم عددًا لا يُحصى من الناس ليعيشوا بحياة أكثر هدفية ووعيًا وتوجّهًا.
ستترك هذا الومضات الأطروحات النظرية الجافة جانبًا، وتغوص في بعض الأفكار والشخصيات التي شكّلت الحضارات – وكذلك في بعض الشخصيات التي أطلقت موجات صادمة داخلها. كما ستتعلّم أيضا كيف تفكر مثل هؤلاء الفلاسفة، وكيف تجلب ثراء وجهات نظرهم إلى حياتك.
ومضة معرفية رقم ١ – التفكير في التناقض: لاو تسو Lao Tsu وسبينوزا
تخيل أن تبدأ كتابًا بالقول إنك لا تستطيع بأي حال من الأحوال التحدث عن موضوعه. غريب نوعًا ما، أليس كذلك؟ لكن هذا بالضبط ما يفعله كتاب “تاو تي تشينغ Tao te Ching” للفيلسوف لاو تسو – إذ يعلن منذ البداية أن الكلمات لا يمكنها التعبير الكامل عن معنى “تاو Tao”، والتي تُترجم بشكل فضفاض إلى “الطريق”.
منذ ظهوره في الصين في القرن السادس قبل الميلاد، حيّر هذا النص الغامض والشاعري الكثيرين بتناقضاته وألغازه. فهو يعلن أن “تاو”، أو الواقع الحقيقي، لا يمكن معرفته وهو أبعد من أن يوصف. لذا، فعندما يحاول البشر فهمه، فإنه يفلت من بين أيديهم.
مؤلفه أيضًا يفلت من بين أيدينا إذا حاولنا الوصول إلى شخصية تاريخية محددة. فـ”لاو تسو” تعني ببساطة “المعلم العجوز”، ومن المرجح أنه لم يكن شخصًا واحدًا بعينه. وكما هو الحال مع “تاو”، فإن المؤلف لا يمكن معرفته ولا يحمل اسمًا محددًا، لكن ذلك لا يقلل من تأثيره.
يستخدم هذا النص القديم الألغاز والاستعارات الغريبة كوسيلة للإشارة إلى أشياء تتجاوز الفهم. فهو مليء بالتشبيهات العجيبة – مثل القول بأن حكم دولة كبيرة يشبه طهي سمكة صغيرة، من حيث سهولة المبالغة في الأمور. أو أن “تاو” يشبه الماء، لأنه يتدفق إلى أعمق الشقوق ويغذي كل شيء على قدم المساواة.
تشير هذه الآيات الغامضة إلى نمط معين من الوجود، حيث تُعد الطبيعة النافذة الحقيقية إلى الواقع. ويتطلب ذلك سكونًا معينًا في العقل والروح كي تتمكن من الملاحظة والمراقبة الحقيقية. كما أن تحرير النفس من الرغبة، كما في البوذية، ضروري لمشاهدة أسرار الواقع. وبسبب تركيزه على “الطريق”، غالبًا ما يُنظر إلى هذا الكتاب كنص ديني – على الرغم من أنه يلاحظ أن الدين لا ينشأ إلا عندما يفقد البشر صلتهم بـ “تاو”.
إذا كانت الطبيعة الحقيقية للواقع عصيّة على الفهم والإدراك، فمن المحتم أن تتقاطع الفلسفة مع الدين في أماكن أكثر من الصين القديمة فقط. دعونا نأخذ على سبيل المثال تجربة الفيلسوف باروخ سبينوزا Baruch Spinoza، أو “بينتو Bento” كما كان يُدعى، في القرن السابع عشر.
وُلد سبينوزا Spinoza في مدينة أمستردام عام 1632 لأبوين يهوديين مهاجرين من البرتغال، وكانت فلسفته مختلفة جذريًا عن فلسفة عائلته والمجتمع اليهودي من حوله. فقد كان يعتقد أن أي تصور عن الإله لا يمكن أن يكون منفصلًا عن العالم الطبيعي. وكما رأى الفيلسوف لاو تسو Lao Tsu قبله بقرون، فإن الطبيعة والكون ذاتهما كانا يمثلان الواقع الحقيقي بالنسبة لسبينوزا – وقد دفع ثمناً باهظاً مقابل هذا الاعتقاد.
طُرد سبينوزا من الديانة اليهودية وهو في الثالثة والعشرين من عمره فقط بعد نشره لعمله Deus sive Natura “الله أو الطبيعة”، فأصبح منبوذًا بالكامل. فتراثه اليهودي كان قد أقصاه مسبقًا من المجتمع الهولندي، وطرده من اليهودية تركه دون أي مجتمع ينتمي إليه.
وكان رد سبينوزا على هذا الألم أن يصبح شخصًا طيبًا. فقد نمت تجربته الشخصية مع المعاناة حيث زادت رحمته وتعاطفه مع الآخرين. كما أن وضعه كمنبوذ ساعد في تقدم عمله الفلسفي من نواحٍ عدة. فبفضل تحرره من التأثيرات الخارجية، طور رؤية للواقع تكاد تكون وحدة وجودية – فكان يعتقد ان كل شيء من حوله كان جزءًا من الله، حتى أولئك الذين رفضوه.
ولهذا السبب، وُصِف سبينوزا بشدة بأنه ملحد لا يؤمن بوجود الله، وفي الوقت ذاته كمتطرف ديني. نشر رسالة مجهولة الاسم عام 1670 بعنوان الرسالة اللاهوتية السياسية (Tractatus Theologico-Politicus)، لكن كل من قرأها أدرك على الفور أنها من تأليفه. جادل فيها بأفكار مثل حرية التعبير وضرورة قيام مجتمع علماني. وفي ذلك الحين، وُصم بالكفر والتجديف – وهو إنجاز كبير لمؤلف تم رفضه رسميًا من قِبل الأديان!
إذن كيف يمكنك التفكير مثل لاو تسو أو سبينوزا؟ افتح عينيك على الطبيعة والعالم من حولك بدهشة، وهدئ عقلك حتى تتمكن من استيعاب كل شيء.
ومضة رقم ٢: الأفكار الأرضية، من أرسطو Aristotle وأبيقور Epicurus
الفلسفة اليونانية القديمة تُعد من أكثر الفلسفات شهرة حول العالم، حيث لا تزال أسماء مثل سقراط، وأفلاطون، وأرسطو منقوشة على واجهات الجامعات ومراكز التعليم بعد أكثر من ألفي عام على وفاتهم. وبينما قد نتصور أن فلسفتهم تنتمي إلى أبراج عاجية عالية، فإن بعضهم كان يهدف في الواقع إلى أن يكون أكثر ارتباطًا بالأرض وواقع الحياة.
خذ أرسطو كمثال. كان تلميذًا مخلصًا لأفلاطون، وقضى سنواته الأولى في أكاديمية أفلاطون يتعلم من المعلم الذي قدم أعمال سقراط إلى العالم. وبمثل هذا الإرث العظيم، ليس من المستغرب أن تكون كتابات أرسطو واسعة النطاق وتشمل مواضيع متنوعة مثل الطب، وعلم الفلك، والكيمياء، وعلم الأحياء، وأكثر من ذلك بكثير.
في فجر البحث المنظم والملاحظة، غادر أرسطو أثينا عام 347 قبل الميلاد للسفر وجمع البيانات قبل أن يعود في منتصف الثلاثينيات ويؤسس مدرسته الفلسفية الخاصة. ومع مدرسته المشّائية، كان يتجول في مدينة أثينا ملقيًا المحاضرات علنًا لأي شخص يرغب في الاستماع. وبدلًا من أكاديمية أفلاطون الرسمية جدًا، جعلت مدرسة أرسطو نفسها ذات صلة بالناس العاديين، والتقت بهم في بيئتهم وعلى أرضهم.
على عكس أفلاطون، الذي كان يعتقد أن الأشكال الحقيقية للكائنات البشرية موجودة خارج العالم المادي في شكل روح أو نفس، لم يكن أرسطو سريعًا في تجاهل الواقع المادي. لقد كان مفتونًا بجميع أنواع الكائنات التي رآها من حوله، وكان يمنحها نفس القدر من الأهمية. كان يتساءل: كيف يختلف كونك حصانًا عن كونك إنسانًا، أو عن كونك شيئًا مثل خاتم ذهبي؟
تحدى أرسطو التفسير الروحي لأفلاطون حول الواقع الحقيقي او (أصل الحقيقة) بتفسير أكثر ارتباطًا بالأرض: ماذا لو، بدلًا من أن نكون أرواحًا أو نفوسًا تبحث عن الحقيقة، كنا نحن الحقيقة ذاتها؟ قاده هذا إلى تقدير الأخلاق – أن نكون صالحين تجاه الآخرين والعالم الطبيعي – إلى جانب الصحة، أي العيش في انسجام مع الجسد المادي.
تشبه هذه العقلية عقلية فيلسوف يوناني آخر له سمعة مختلفة تمامًا في العالم المعاصر. فعندما نفكر في كلمة “أبيقوري Epicurean”، قد نميل إلى تصور شخص ينغمس بانتظام في الإفراط في شرب النبيذ، وتناول الطعام الغني، أو المتع الحسية. لكن هذا بعيد كل البعد عن مبادئ أبيقور، الذي ألهم هذا المصطلح.
استقر أبيقور في أثينا في منتصف الثلاثينيات من عمره بعد أن قضى شبابه في كولوفون Colophon، وهي مدينة تقع في تركيا الحالية. ويُعتبر اليوم عالمًا ذريًا ومن أتباع النظرية الذرية – أي أنه كان يؤمن بأن كل شيء في العالم، بما في ذلك الروح أو النفس، مكوّن من جسيمات دقيقة. وبالطبع، كانت الروح مكوّنة من جسيمات أدق من تلك التي يتكوّن منها الجسد، وهو ما يفسّر مدى صعوبة العثور عليها.
كان أبيقور مفكراً مادّياً بعمق، وقد لاحظ أن الأطفال مدفوعون بالسعي وراء اللذة – ولذلك فإن اللذة، في جوهرها، لا بد أن تكون الدافع للحياة وأساس العيش الكريم. ولكن ما هي اللذة عند أبيقور؟ يبدو أن تعريفه ببساطة هو غياب الألم. فالسعي وراء اللذة المفرطة، مثل شرب الكثير من النبيذ، غالباً ما يؤدي إلى الألم. ولذلك فإن أبيقور يرى أن من الأفضل تجنّبها.
ما يتجلّى في فلسفته ليس وصفة للانغماس، بل دعوة إلى البساطة. يمكن أن تكون الحياة مليئة بالرضا إذا سعيت إلى القليل. فالسعي وراء المزيد يجلب الألم للذات وللآخرين، فلماذا لا تزرع حديقة بدلاً من ذلك؟ فبساطتها الجميلة ستغذّي الجسد والروح معاً.
كيف يمكنك أن تفكر مثل أرسطو أو أبيقور؟ كن متجذرًا في الواقع بقدر فضولك تجاه كل ما يحيط بك. وكن لطيفًا مع الآخرين ومع نفسك على طول الطريق، لتخفيف كل ما يمكنك من المعاناة.
ومضة رقم ٣: تأملات في الاغتراب، مع ماركس Marx ونيتشه Nietzsche
إذا كانت الفلسفة غالبًا ما اتجهت إلى فحص العالم الطبيعي بحثًا عن الإجابات، فإن بعض الأرواح الحديثة لجأت بدلاً من ذلك إلى فهم آليات المجتمع البشري لاكتشاف الطبيعة الحقيقية للواقع. فقد قاموا بتحليل أنظمة مثل الرياضيات واللغة، أو توجهوا إلى التاريخ لاستخلاص معنى الحياة.
بالنسبة لكارل ماركس Karl Marx والمتعاون معه فريدريك إنجلز Friedrich Engels، كانت الرأسمالية الصناعية هي التي تمثل الواقع الحقيقي للحياة الحديثة. وعلى الرغم من أن كتاباته كانت تُصنَّف في الغالب ضمن علم الاقتصاد، فإن كارل ماركس كان له تأثير عميق على الفلسفة الحديثة – وقد تم تبني أفكاره من قبل العديد من الثورات حول العالم، وهي ثورات كان ماركس نفسه سيسارع إلى النأي بنفسه عنها.
انتقد ماركس بعض الفلاسفة مثل سبينوزا، والذين اعتبروا أن الإنسان فئة ثابتة بدلاً من كونه كائناً يتطور. بالنسبة لماركس، كان الواقع يُحدد بالظروف المعيشية في الحاضر. فالظروف المادية، مثل كيفية عمل الناس وما يحصلون عليه مقابل ذلك، كانت تمثل الواقع الأساسي في المجتمع الصناعي.
لكن في مفهوم الاغتراب لديه، ربما يكون ماركس قد دخل بالكامل في حقل الفلسفة. فهو يشير إلى أنه إذا كان الهدف من الصناعة هو الربح، فعندها يجب أن يحصل العمال على أجر أقل من القيمة الحقيقية للمنتجات التي يصنعونها. ويتم اقتطاع الفائض كربح من قبل الرأسمالي. وبهذا يُغترب العمال عن ثمار عملهم. والأسوأ من ذلك، أنهم لا يملكون السيطرة على ما يفعلونه أو متى يفعلونه. وفي أماكن العمل التنافسية، يُدفع بهم إلى التنافس ضد بعضهم البعض، مما يؤدي إلى اغترابهم عن زملائهم العمال أيضًا.
في أواخر القرن التاسع عشر، لم يكن العمال وحدهم من يعانون من الاغتراب. فمع إعلان فريدريك نيتشه الشهير “لقد مات الإله”، بدا وكأن كل شيء قد أصبح مغتربًا. وفي عمله الاستفزازي والمهيب جزئيًا، والذي يحمل طابع السيرة الذاتية بعنوان Ecce Homo، والذي يُترجم إلى “ها هو ذا الإنسان”، استخدم نيتشه عناوين فصول مثل: “لماذا أنا ذكي جدًا” و ”لماذا أكتب كتبًا ممتازة للغاية”.
كان نيتشه فيلسوفًا للأمثال القصيرة أو العبارات الموجزة، واشتهر بأقوال مثل “بعض الرجال يولدون بعد وفاتهم”، والتي أظهرت حسه الساخر وحدة ذكائه، إلى جانب قدر من السخرية من الفلسفة الغربية. في الواقع، فقد كُتبت عبارته “لقد مات الإله” بأحرف كبيرة كما لو أنها صرخة مدوية من صفحات كتابه هكذا تكلم زرادشت Thus Spoke Zarathustra.
ألهم هذا الكتاب ريتشارد شتراوس Richard Strauss ليؤلف قصيدته السيمفونية عام 1896 التي تحمل نفس الاسم، والتي اشتهرت بشكل خاص في افتتاحية فيلم ستانلي كوبريك ٢٠٠١: ملحمة الفضاء (Stanley Kubrick’s 2001: A Space Odyssey). فقد كانت فلسفة بهذا القدر من الجرأة تحتاج إلى موسيقى درامية توازيها.
بالنسبة لنيتشه، لم يكن لهذا التصريح أي علاقة بحياة أو موت كائن خارق للطبيعة، بل كان تعليقًا على الحالة الراهنة للمجتمع. لقد كان يحذر بشكل أساسي من أنه بمجرد أن يتراجع الدين كأساس للأخلاق الاجتماعية، فإن المجتمع مهدد بالانهيار ما لم توجد منظومة أخلاقية موحدة تجمعه.
فكيف يمكنك أن تفكر مثل ماركس ونيتشه؟ أولاً، تبني فكرة أن كل نظام، سواء كان ديناً أو لغة أو رأسمالية صناعية، يمكن تحليله للكشف عن حقيقة أساسية. لكن حافظ على روح الدعابة لديك أثناء القيام بذلك، لأن البشر يتصرفون بشكل مثير للسخرية.
ومضة رقم ٤: التأمل في الحب والجنس مع سافو Sappho ودي بوفوار Beauvoir
بينما قد لا تخطر الشاعرة اليونانية سافو Sappho على البال عند التفكير في الفلاسفة، فإن شعرها يُظهر عقلًا فلسفيًا رفيعًا. فقد مدحها كل من سقراط وأفلاطون ولقّباها بـ”المُلهِمة العاشرة” لجودة كتابتها الفائقة. وتضفي أوصافها للرغبة، المليئة بصور مجازية متقنة، مفاهيم الحب والجمال على الفلسفة بحضور قوي ومؤثر.
تستخدم الشاعرة سافو مصطلحات مثل “الحلو المر” لوصف مشاعر الانجذاب والرغبة. وتشير أوصافها الشعرية إلى خفقات في صدرها، ونار خفية تسري على جلدها، وطنين في أذنيها عند رؤية محبوبها، مما يربط القراء عبر القرون برواية شخصية عميقة عن تجربة الحب المحسوسة. وإذا كان الحب والجمال من صفات الآلهة، فإن طبيعتهما تُعد جزءًا مهمًا من الحقيقة الواقعية.
تصف الشاعرة سافو فقدان الحب بنفس الوضوح اللاهث — كألم جسدي حقيقي يمكن أن يسلب كل فرح بالحياة في حزن يائس. إن رؤية الشاعرة سافو للحب والفقد كأنهما مرتبطان بعمق، بل توأمان، هي حقيقة خالدة. ولا تزال ملاحظاتها الصريحة حول هشاشة الحب وعدم عقلانية البشر تحت تأثير المشاعر القوية تلقى صدى حتى اليوم.
وبالمثل، كرّست الروائية والفيلسوفة سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir حياتها لمراقبة واقع حياة النساء عن كثب، وقد جعلتها رواياتها الصريحة عن القمع المنهجي في كتابها “الجنس الآخر The Second Sex” تُعتبر رمزًا مبكرًا للحركة النسوية. لكنها كانت ترفض هذا الوصف، إذ لم تكن اهتماماتها مقتصرة على أوضاع النساء فحسب، بل شملت الرجال أيضًا.
علاقتها بالفيلسوف جان بول سارتر Jean Paul Sartre وضعتها في قلب جماعة الوجوديين الفرنسيين، وهي مجموعة من الفلاسفة الذين أخذوا إعلان نيتشه عن “موت الإله” على محمل الجد. لكن هذا الطرح أثار أزمة جوهرية: “إذا كان الإله قد مات؟”، فهل يعني ذلك أن بإمكان أي شخص أن يفعل ما يشاء؟
وكان الجواب لدى دي بوفوار de Beauvoir، كما كان لدى نيتشه من قبلها، هو: “لا” مدوية. فغياب الإله لا يعني غياب الأخلاق، بل يُحمِّل الأفراد مسؤولية التصرف بأخلاقية وإنسانية، ليس لسبب سوى أن كل إنسان يستحق الحرية. قد يبدو ذلك متناقضًا – فإذا كان كل شيء مباحًا، فقد تُفقد حرية البعض في العيش والازدهار. إن المجتمع الأخلاقي هو الذي يحافظ على حرية الجميع ويمكّنهم من اتخاذ قرارات تخص حياتهم بأنفسهم.
كانت دي بوفوار معروفة بشكل خاص بفكرة “النداء” أو “الاستدعاء”، والتي تعني أن الحرية تتطلب أيضًا أن يتوافق الآخرون مع مثل وقيم مشتركة. فلا أحد يعيش في عزلة، وقد أشارت دي بوفوار بقوة إلى أن المرأة ليست استثناءً من ذلك أيضًا. ولا يزال نداءها من أجل الاعتراف المتبادل بالآخر إلى جانب الذات يمثل دعوة قوية للمساواة والتنوع.
فكيف يمكنك أن تفكر مثل الشاعرة سافو والروائية ودي بوفوار؟ أولاً، تذكّر أن البشر ليسوا عقلانيين كما نحب أن نعتقد— فجميعنا يمكن أن يكون غير عقلاني تحت تأثير العواطف. بعد ذلك، اسعَ إلى الاعتراف بتجارب الآخرين تمامًا كما تعترف بتجربتك الذاتية، حتى يتمكن الجميع من أن يكونوا أحرارًا.
خلاصة نهائية
الفلسفة هي حوار دائم التغيّر، متواصل التحدي، حول الأسئلة الكبرى في الحياة. يمكنك أنت أيضًا أن تفكر كفيلسوف إذا كنت مستعدًا لفتح عقلك على الطبيعة وكل ما تحمله من عجائب، كما فعل سبينوزا أو لاو تسي. أو أن تبقى متجذرًا وفضوليًا في محادثاتك مع الناس العاديين، كما فعل أرسطو أو إبيقور. ويمكنك تمكين نفسك من خلال التأمل في الاغتراب واختيار التحالف على الفوضى، كما فعل نيتشه وماركس. أو أن تجد المعنى في علاقتك بالآخرين، بكل ما يصاحبها من أفراح وآلام، كما فعلت سافو ودي بوفوار.
سيرة مختصرة عن المؤلف السيد بيتر كايف (Peter Cave)
- كاتب ومحاضر فلسفي بريطاني، وعضو الجمعية الملكية للفنون (RSA)، وأستاذ فخري في الجامعة المفتوحة بلندن.
- ألف العديد من الكتب الفلسفية، منها: “الأساطير التي نعيش بها”، “كتاب التفكير الكبير”، “حرية التعبير وخرافات ليبرالية أخرى”، وسلسلة الكتب الفلسفية الخفيفة حول الألغاز مثل: “هل يمكن للروبوت أن يكون إنسانًا؟” و”ما الخطأ في أكل الناس؟”.
- شغل مناصب أكاديمية في جامعات مرموقة مثل كلية لندن الجامعية (UCL)، جامعة كينغز بكامبريدج، وجامعة الخرطوم وجامعة سيتي في لندن.
- محاضر ضيف في جامعات عالمية، وشارك في تحرير مجموعات فلسفية وكتابة مقالات للعديد من الدوريات.
- قدم برامج فلسفية لإذاعة البي بي سي، وشارك في مناظرات عامة حول الأخلاق والدين والقضايا الاجتماعية في أوروبا.
- ناشط في العمل الإنساني والاجتماعي، وراعي لعدة مؤسسات فكرية وإنسانية مثل Humanists UK وPopulation Matters.
- أحدث أعماله كتاب “كيف تفكر مثل الفيلسوف” (2023)، والذي حظي بتقدير كبير لأسلوبه وعمقه الفكري.