مجمع صناعي جديد وعتيد.. ليس عسكريا بل معلوماتيا
بقلم: عبد الله سلمان العوامي
١ نوفمبر ٢٠١٨م
المجمع الصناعي للبيانات “data-industrial complex” هذا الاسم أطلقه السيد تيم كوك الرئيس التنفيذي لشركة أبل من ضمن كلمته التي القاها في المؤتمر الدولي الأربعين لمفوضي حماية البيانات والخصوصية The 40th International Conference of Data Protection and Privacy Commissioners والذي عقد في البرلمان الأوروبي بالعاصمة البلجيكية بروكسل في نهاية أكتوبر ٢٠١٨م. حيث حذر السيد تيم كوك في الكلمة الرئيسية للمؤتمر هذا المجمع الصناعي الجديد من استمراره في تجميع الكثير من البيانات الشخصية لمرتادي الانترنت وطالب الى سن قوانين أكثر صرامة لحماية الخصوصية على الشبكة العنكبوتية، ومنتقدا بصراحة عمالقة شركات التقنية مثل فيسبوك وجوجل والتي تتخصص في جمع بيانات المستخدمين حيث قال: إن المعلومات الشخصية أصبحت “مادة مسلّحة”، يتزامن ذلك مع سوء استخدام الشركات لهذه المعلومات في التفضيل بين الافراد من خلال سلوكهم وغير ذلك. وقال أيضا إنه يتم استخدام هذه البيانات ضد المواطنين من خلال “الكفاءة العسكرية للبيانات” وأصبحت شركات تجارة المعلومات تشكل “مجمعاً صناعياً للبيانات”، كما يتم أيضا توظيف بعض البرامج التقنية في معالجة هذه البيانات من اجل التضخيم السيء للنزاعات البشرية. وهنا تكمن خطورة هذه المجمع الصناعي الجديد والعتيد.
المجمع الصناعي العسكري:
وقبل الحكم بخطورة هذا المجمع الصناعي الجديد العتيد يجدر بنا التعريف ولو مختصرا على المجمع الصناعي العسكري وهل كان يمثل أي خطورة على المجتمع عند انشائه.
في ١٧ يناير عام ١٩٦١م وجه الرئيس الأمريكي أيزنهاور خطاباً إلى الشعب الأمريكي أسماه خطاب الوداع. حيث القاه قبل أن يسلم السلطة إلي الرئيس الأمريكي الجديد جون كينيدي. وقد حذر الرئيس الأمريكي ايزنهاور في خطابه من المجمع الصناعي – العسكري وخطورة تحالفه مع الجيش على الديمقراطية الأمريكية.
وحسب تعريف الكاتب الأستاذ صباح كنعان في جريدة الخليج: فان مفهوم المجمع العسكري الصناعي يشير إلى العلاقات السياسية والمالية بين مشرعين في الكونغرس، والقوات المسلحة ممثلة بالبنتاغون (وزارة الدفاع)، والصناعة الحربية التي تدعم الجيش والمشرعين كليهما. وهذه العلاقات تشمل تقديم تبرعات سياسية، وحشد التأييد للإنفاق الدفاعي، وإطلاق حملات ضغط لكسب تأييد السلطة التنفيذية. هذا النوع من العلاقات هو ما يسميه علماء السياسة ب المثلث الحديدي، لوصف التداخل بين صنع القرار السياسي، والعلاقة بين لجان الكونغرس والبيروقراطية (أي السلطة التنفيذية، وتسمى أحياناً الوكالات الحكومية)، ومجموعات الضغط (اللوبي).
شبكة العلاقات المشار اليها أعلاه من سياسيين نافذين وجيش ضخم وشركات عملاقة أصبحت وحسب رأي الكثير من الساسة والاستراتيجيين ان وزارة الدفاع الامريكية هي العصب الحقيقي والحاكم الفعلي لإدارة الدولة في البيت الابيض.
المجمع الصناعي الجديد والعتيد ومشروعه التنافسي الشرس:
وليس من المستغرب ان تتغير هذه المعادلة يوما ما وقد يكون ذلك قريبا لتصبح قياس “الحاكمية والسلطة” ليس لمن يملك الاله العسكرية مهما كان حجمها وقوتها وانما سوف يكون لمن يملك المعلومة النوعية، وبحجم هذه المعلومات سيكون صاحبها قادرا على التحكم والتسلط في مصائر الشعوب. ان انتقاد الرئيس التنفيذي لشركة أبل السيد تيم كوك لشركات تجميع البيانات الشخصية مثل جوجل وفيسبوك وتويتر وامازون لا يعفيه أيضا من نفس الانتقاد، حيث أن شركة أبل وجميع شركات التنقية العملاقة بدون استثناء ضالعين في القيام بنفس الدور بشكل أو بآخر، وإن جميعهم في حرب طاحنة وضروس وسباق مع الزمن فيما بينهم لمن يفوز بحصة الأسد في جمع هكذا معلومات عن أي شخص يرتاد مواقعهم ويستخدم تطبيقاتهم ويشتري منتجاتهم. إنه تنافس شرس بين هذه الشركات ولمرحلة كسر العظم في هذه اللعبة المجنونة والتي يطلق عليها Zero-Sum Game، وبمعنى لا أستطيع أن أبقى وحدي متسلطا ومتحكما في الساحة دون اخراج الاخرين تماما وبتعبير آخر أنا “الكل” والباقي “صفرا”
هذا التنافس الشرس له عدة وجوه، ومنها السلبي والايجابي. وأحد الوجوه الإيجابية منها يتمثل في ان الدول الغربية عموما وأمريكا على وجه الخصوص تقدمت تقنيا وبخطوات ملموسة وبشكل متسارع وقد يكاد ألا يمر يوما ولا ترى او تسمع عن منتج تكنولوجي جديد، والعديد من هذه المنتجات التكنولوجية ساهمت كثيرا وبشكل واضح في خدمة البشرية وساعدت في زيادة الانتاجية. هذا التقدم التقني يسير بسرعة فائقة وبعجلة جارفة وضخمة، ولكن بدون ضوابط فلا تعيقه الأنظمة أيا كان نوعها او مصدرها فهو يكسر الحواجز ويحطمها من أجل تحقيق أفضل المنتجات التنافسية لجمع المال وتحقيق اعلى من الارباح.
وفي الطرف المقابل هناك وجوها سلبية ايضا، حيث يتبادر الى أذهان الكثير من المراقبين والمتخصصين عدة أسئلة، ومنها للذكر وليس للحصر: هل هناك سلبيات من هذا التقدم التقني…؟؟ هل نحتاج الى سن أنظمة جديدة تساعدنا الى ترشيد الإنتاج التكنولوجي…؟؟ هل نحتاج ان نضع خطوطا حمراء لهذا التقدم الجارف لئلا يستولي على خصوصياتنا او يسلب عقولنا ويخطفها ويتحكم فيها…؟؟
الأسئلة أعلاه كانت من ضمن أسئلة كثيرة طرحها العديد من الناشطين من علماء التقنية المتخصصين وبعض الفلاسفة المعنيين الذين يخشون كثيرا من سلبيات هذا التقدم السريع بدون سن قوانين صارمة تكبح هذا العجلة المتسارعة وتنظم العلاقة بين العقل البشري وتسارع تقنية الالة وخاصة تلك الشركات التي تطور برمجيات منصات التواصل الاجتماعي باستخدام تقنيات الذكاء الصناعي مثل فيس بوك، تويتر، واتس اب، انستغرام، سناب شات، يوتيوب … الخ.
مخاوف ومخاطر:
ويعزي الكثير من هؤلاء الناشطين من فلاسفة ومتخصصين مخاوفهم من خطورة هذه الشركات لأسباب مختلفة وممارسات غير محمودة من قبل هذه الشركات ومنها:
١ التركيز على شد انتباه المستخدم عبر اشعارات واعجاب وإعادة تغريدات ومتابعات وتدوير رسائل وصور وعرض فيديو اخر بشكل مستمر يرقى الى الإدمان أحيانا وخاصة عند فئة الشباب.
٢ تتسابق هذه الشركات لتجعل العقل البشري مشدودا دون انفكاك لمدة ٢٤/٧ مما يؤثر على صحة الدماغ من ناحية وضياع الوقت من ناحية أخرى حيث لا تجد فسحة حتى للعلاقات العائلية والاجتماعية
٣ تسعى هذه الشركات الى استغلال النزعة الحيوانية وليس الإنسانية في العقل البشري في تعزيز روح التنافس الشخصي من حيث عدد المعجبين وعدد المتابعين وسرعة نقل الخبر… والاستمرار في التواصل بدون انقطاع يومي والمستهدف شريحة الشباب بشل خاص.
٤ تشجيع الروايات والقصص الكاذبة وغير الموثقة وخاصة تلك التي تشكل رواجا ملحوظا وسريعا بشكل واسع مما تخلق نشر الفوضى والبغضاء في ان واحد وتدمر روح الديمقراطية في نفوسنا ان وجدت.
٥ تسويق منتجات بدون رقابة حيث الهدف هو الربحية ولمن يدفع أكثر..
٦ توفير الأرضية الكاملة لإنشاء حسابات وهمية في منصات التواصل الاجتماعي من اجل تمرير الاشاعات التي تخلق البلبلة والفوضى..
٧ تمرير رسائل موجهة لطبقة معينة مثل ضعاف النفوس من اجل نشر الفوضى
٨ توجيه رسائل مختلفة لشرائح متعددة باستغلال ظرف عاطفي مثلا والاستفادة من الحدث..
٩ والقائمة تطول وتطول..
مراقبة شاملة:
مع التقدم الملحوظ للتقنية وتسارع منتجات الذكاء الصناعي أصبح الانسان يخضع لمراقبة مستمرة عند استخدامه تطبيقات التليفون الذكي أو تصفحه للأنترنت عبر جهازه الشخصي، فتجمع كل معلوماته الشخصية، سلوكياته، المواقع التي يرتادها، ميوله، البضاعة التي يشتريها، الأصدقاء الذين يتواصل معهم، تعليقاته ومشاركاته عبر منصات التواصل الاجتماعية، المواضيع التي يحب أن يقرأها، الصور التي يتداولها، المدن والدول التي يزورها، … وهكذا.
أي معلومة مستقلة بمفردها قد لا تمثل أي أهمية ولن تكون مؤذية، ولكن يتم تجميع هذه البيانات المتناثرة عن كل شخص بعناية، ثم توليفها، تداولها، تنظيمها ومن ثم بيعها”.. ومن هنا تأتي خطورة شركات تجميع البيانات الضخمة حيث تستخدم هذه المخزونات من البيانات الشخصية فقط لإثراء الشركات التي تجمعها على حساب خصوصية الافراد، ومن يملك أكثر من البيانات يربح أكثر من المال. أن المنافسة المحتدمة بين هذه الشركات في هذا المجال والتي لا تخضع لأي قوانين صارمة تشكل انتهاك سافر واختراق واضح للخصوصية.
أسئلة مشروعة:
مما تقدم قد يتبادر للقارئ الكريم أسئلة مشروعة وجوهرية وأيضا كثيرة، وبعض منها ما يلي: هل نستطيع العيش بدون اقتناء الهواتف الذكية؟، هل نستطيع التخلص من هذه التطبيقات؟، ما هي الحلول الناجعة للتعامل مع هكذا مشكلة معقدة وخطيرة؟
نعم، قد يكون صعبا العيش بدون هواتف ذكية، وليس سهلا ان نتخلص من التطبيقات في هواتفنا والتي أصبحت زادنا اليومي. أما العلاجات فهي كثيرة وذلك حسب اراء الناشطين من فلاسفة وأخصائيين وتحتاج الى كتابة موضوع مستقل، ولكن يمكننا أن نوجز وباختصار شديد بعض منها وهي كالتالي:
١ الاعتراف بأهمية المشكلة وخطورتها.
٢ نشر الوعي عبر التثقيف الواسع وخاصة لفئة الشباب.
٣ التقليل من استخدام الكثير من التطبيقات أو حذفها، كثرتها يعني نشر معلوماتك وضياع وقتك في استخدامها.
٤ برمجة الأولويات بحيث لا تستحوذ هذه التطبيقات لهدر الوقت والجهد مقابل الإنتاجية والعلاقات الاجتماعية.
٥ دعم مؤسسات المجتمع المدني والتي تسعى لحماية البيانات والخصوصية، والاقتداء بما تم في أوروبا حيث اكتسب مفوضو حماية البيانات والخصوصية سلطة ونفوذاً اتجاه شركات التكنولوجيا الرقمية عقب سريان اللائحة الأوروبية لحماية البيانات General Data Protection Regulation أو ما يعرف اختصارا بـ(GDPR) خلال شهر أيار/ مايو ٢٠١٨م، هذا القانون الذي يطبق في سائر دول الاتحاد الأوروبي، كما يطبق على الشركات والمؤسسات الأوروبية وغير الأوروبية التي تتعامل مع بيانات أفراد أوروبيين بصفتهم الشخصية أو الاعتبارية.