رثاء الشيخ بهاء الدين الخاقاني (أبا محمد)
عبدالله سلمان العوامي
١٨ فبراير ٢٠٢٥م – مدينة ديربون ولاية ميتشجن – أمريكا
في التاسع من يناير 2025، تلقيت خبر رحيل الأخ العزيز، الأستاذ الفاضل الشيخ بهاء الدين ابن ضياء الدين الخاقاني (أبا محمد)، بصمتٍ وبدون ضجيج. للحظة، شعرت أن الزمن قد توقف، أن عقارب الساعة تراجعت إلى الوراء، وكأنني أبحث عن لحظة أخيرة للحديث معه، للاستماع إلى أفكاره، لاستيعاب أن هذا الرجل، الذي كان ينبض بالحياة والعطاء، قد رحل. كنت أبحث عن كلمات تليق برثائه، لكنني وجدت نفسي في صمت عميق، تمامًا كما كان رحيله.
رحل عنا الأديب، الشاعر، الإعلامي، المفكر، والناشط، وقبل كل ذلك، الإنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لم يكن مجرد اسم في قائمة الشخصيات الثقافية، بل كان قلبًا نابضًا بالفكر، وصوتًا عاقلاً في زمن الصخب، وجسرًا بين العقول والقلوب.
رجل الفكر.. صوت الاعتدال والتسامح:
لم يكن الشيخ بهاء الدين الخاقاني مجرد شخصية عابرة في المشهد الثقافي والفكري، بل كان نموذجًا فريدًا لرجلٍ جمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين العلم والتواضع، وبين الفكر والتطبيق. لقد كان يحمل رسالةً ساميةً، نشرها في كل موقعٍ حلّ فيه، واستطاع بفضل رؤيته الواسعة أن يكون همزة وصل بين المدارس الفكرية المختلفة، مجسدًا روح الحوار والتسامح والاعتدال، وكان رجلًا جمع بين الفكر العميق، والأخلاق السامية، والإيمان الراسخ.
واسمحوا لي هنا ان استعرض بعضا من صفاته المميزة وبشكل مختصر جدا، ومنها:
- إعلامي عقلاني: لم يكن يسعى وراء الإثارة الإعلامية، بل كان يؤمن بأن صوت العقل أعلى من صوت العاطفة، وأن الكلمة أمانة يجب أن تُقال بصدق واتزان.
- كاتب موضوعي: لم يكن قلمه أداة للتحريض أو الانحياز، بل كان صوتًا للموضوعية، حريصًا على التوازن في الطرح، متحررًا من الطائفية، وساعيًا إلى وحدة الأمة.
- شاعر يكتب بروح الفكر: لم يكن شعره مجرد كلمات منمقة، بل كان مشاعر صادقة تنبع من قلبه وعقله، تعبر عن آمال الناس وأوجاعهم، وتنبض بروح القضايا الكبرى.
- مفكر منفتح على الجميع: لم يكن فكره متصلبًا، بل كان يتبنى الحوار الهادئ، ويؤمن بأن كل رأي يحتمل الصواب أو الخطأ، فيحترم الرأي المخالف، ويسعى دائمًا للجمع بين المختلفين.
- عالم دين متسامح: رغم اعتزازه بمرجعيته، لكنه كان يحترم جميع العلماء والمراجع، مؤمنًا بأن الدين رسالة محبة لا أداة انقسام، ولم يكن متصلبًا، بل يدعو إلى الحوار بين المذاهب والفكر الإسلامي المعتدل.
- ناشط بلا حدود: لم يكن محصورًا في دائرة محددة، بل امتدت علاقاته عبر البلدان العربية والإسلامية، جامعًا لا مفرقًا، مؤمنًا بأن الفكر لا تحده الجغرافيا.
- عراقي أصيل.. عربي الهوى، إسلامي الرسالة: يعتز بوطنه العراق ويفتخر بإنجازاته ومنتجاته، لكنه في الوقت ذاته كان أيضًا منتميًا لأمته العربية والإسلامية، جامعًا لا مفرقًا، وحريصًا على وحدة الأمة، مؤمنًا بأن التقدم لا يتحقق إلا بتكاتف الجميع.
- حاضرٌ في المشهد الثقافي: كان اسمه حاضرًا في المناسبات، المهرجانات، والحوارات الفكرية، مستمعًا أو متحدثًا، يشارك بكلمة أو قصيدة. متفاعلًا مع الفكر والثقافة، مساندًا للمبادرات الثقافية والإعلامية التي تهدف إلى نشر الوعي والمعرفة.
- عاشق للكتب والعلم: أينما بحثت عنه، وجدته بين الكتب، يغوص في الفكر، يحلل، يدقق، ويؤمن بأن المعرفة رحلة لا تنتهي.
- صاحب علاقات واسعة مبنية على الاحترام: امتدت علاقاته الفكرية والثقافية عبر الحدود، حيث كان جسرًا للتواصل بين مختلف الثقافات، يؤمن بأن الحوار هو السبيل الأقوى للتقارب والتفاهم.
إرثٌ علمي وأدبي ممتد عبر الأجيال:
لم تكن صفات الشيخ بهاء الدين الخاقاني وليدة المصادفة أو مجرد سمات فردية، بل كانت امتدادًا طبيعيًا لجذورٍ راسخة في العلم والأدب والفضيلة. لقد نشأ في بيتٍ عريقٍ عُرف بالمعرفة والتقوى، وترعرع في بيئةٍ زاخرة بالفكر، حيث تتلمذ على يد كبار العلماء والمفكرين، فكان امتدادًا مشرقًا لهم، وحلقة مضيئة في سلسلة الفكر النقي التي حملها أسلافه.
لم تكن مبادئه في الاعتدال والحكمة والتسامح مجرد شعارات، بل كانت أسلوب حياة عاشه ونقله لكل من عرفه، فهو لم يسعَ وراء الألقاب، لكنه استحقها جميعًا عن جدارة، لما حمله من فكرٍ عميق، واتزانٍ معرفي، وخلقٍ رفيع.
ينتمي الشيخ أبا محمد إلى عائلة علمية شامخة، تمتد جذورها في الفقه والأدب والفكر والفضيلة. فقد نهل من إرث أسرة عريقة اشتهرت بالعلم والتأثير الثقافي، مما شكّل منهجه في البحث والتدريس والنشاط الفكري. فهو سبط المرجع الراحل آية الله العظمى الشيخ محمد طاهر الخاقاني، وحفيد العلامة الشيخ عبد المحسن الخاقاني، وابن المؤرخ والشاعر والمفكر ضياء الدين الخاقاني. هذا الامتداد العلمي والأدبي جعله نموذجًا للعالم المثقف، المتزن، المتسامح، الذي يجمع بين الإرث العلمي العريق والانفتاح الفكري العميق.
رحل الجسد.. وبقي الأثر:
لم يكن رحيل الشيخ بهاء الدين الخاقاني مجرد نهاية لمسيرة حياة، بل بداية لخلود أثره الذي سيبقى حاضرًا في العقول والقلوب. فقد غاب الجسد، لكن فكره لا يزال ينبض بالحياة، وكلماته ما زالت تضيء دروب الباحثين عن المعرفة والحقيقة.
كان رجلًا لا يُقاس بعمره، بل بحجم عطائه، وبما تركه من بصمات خالدة في ميادين الفكر والأدب والعلم. في كل مقال كتبه، وكل قصيدة نظمها، وكل محاضرة ألقاها، كان يزرع بذور الحكمة، ويُحلق بفكره نحو آفاق واسعة من الوعي والتسامح والإنسانية.
لقد رحلت عنا أيها العزيز، لكن روحك لم تفارقنا، بل بقيت حيّة في تراثك الفكري، في كتبك ومقالاتك، في نقاشاتك المستنيرة، وفي ابتسامتك الدافئة التي كانت تسبق كلماتك دومًا. إن العظماء لا يُخلدون بعدد السنين التي عاشوها، بل بحجم التأثير الذي تركوه وراءهم، وأنت كنت من أولئك الذين لا تغيب آثارهم عن الذاكرة.
إرثك الفكري مسؤوليتنا:
نحن، عائلتك، أصدقاؤك، ومحبوك، نحمل مسؤولية حفظ إرثك، ونقل فكر الاعتدال الذي كنت تمثله، ونُبقي صوت العقل الذي كنت تدعو إليه حاضرًا بيننا، فلا ينطفئ نور المعرفة الذي كنت تشعّ به.
شيخنا أبا محمد:
- لم تكن مجرد شيخ أو مفكر، بل كنت روحًا تتسع للجميع، عقلًا ينثر نور الحكمة، وقلبًا يحتضن الجميع دون تفرقة.
- إن أردنا أن نكرم ذكراك، فلن يكون ذلك فقط بالرثاء، بل بمواصلة دربك، بتجسيد قيمك النبيلة، والسير على خطى الفكر المستنير الذي كنت تدعو إليه.
- لقد علمتنا أن الحقيقة ليست حكرًا على أحد، وأن الحوار والنقاش هما الطريق الأمثل للفهم والتقارب، وهذه رسالة سنحرص على إيصالها كما كنت تفعل، بعقلٍ راجح، وقلبٍ مفتوح.
وداعًا أبا محمد.. لكنك لم تغب:
رحمك الله أيها الشيخ الأديب، والمفكر الإنسان، والصديق الذي لن يتكرر. رحلتَ عن أعيننا، لكنك لم تغادر قلوبنا.
رحمك الله يا أبا محمد، وأسكنك فسيح جناته، وجعل ذكراك حيّة في قلوبنا وعقولنا إلى الأبد. ستبقى نبراسًا للفكر، ورمزًا للتسامح، وصوتًا للعقلانية، ومصدر إلهام لكل من سار في درب المعرفة.
“إنا لله وإنا إليه راجعون.”